السبت، ٢٦ مايو ٢٠٠٧

أمم بائدة

السلام عليكم

يأخذنا الحديث هذه المرة إلى الأمم البائدة مثل (بابل - إرم – عاد – ثمود - مدين) وطبعا أنبياء الله المرسلين إليهم مثل (هود – صالح – شعيب).... هيا بنا نكمل الرحلة مع كتاب "من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن"....

مع تحياتي


من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

أمم بائدة
****

(1)
هاروت - ماروت - بابل

ليس في التوراة والإنجيل" هاروت وماروت" ولا ذكر في قصص أهل الكتاب لفتنة هاروت وماروت في بابل على نحو ما يقصه القرآن : {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة.
ولم تأت "هاروت" و"ماروت" و"بابل" في كل القرآن إلا مرة واحدة فقط، هي هذه الآية.

****

وقد حار المستشرقون المنكرون للوحي على القرآن في تفسير أصل " هاروت " و" ماروت" ، لأنهم يبنون مقولاتهم في أعلام القرآن على فرض بات مسلما عندهم، لغوا به حتي حسبوه الحقيقة: القرآن يتوكأ على التوراة والإنجيل، ولا علم له بما وراء أقاصيص أهل الكتاب. وقد خلت التوراة والإنجيل من ذكر" هاروت" و" ماروت" ، فمن أين أتي القرآن بهما؟

قالوا: ربما أخذهما القرآن نقلا عن الديانة الزرادشتية من "خُردت" "أمردت" في الفارسية البهلوية ("هَرفُوتت" ، أمُورتت" في الفارسية الأفستية) ومعناها " الكمال"، " الخلود" ، جائزة المتقين بعد الموت. ثم استدركوا على أنفسهم فقالوا إن العرب الجاهليين لم يستقوا عقائدهم من الفرس، فضلا عن أن التسمية بهذين الاسمين الفارسيين تشخيصا لملكين هبطا من السماء إلى الأرض ليعملا عمل هاروت وماروت، تسمية لا تنطبق ومن ثم لا تصح.

وقالوا أيضا : ربما أخذ القرآن "هاروت" و"ماروت" من كتاب ينسب إلى أخنوخ (إدريس في القرآن على ما نرجحه نحن)، ضاع أصله وبقيت منه ترجمة باللغة السلافية القديمة، وفيه أن ملكين أحدهما "أريوخ" والآخر "مريوخ" أمرا بإغلاق الكتاب على نبوءات أخنوخ حتى تمام الدهور. وهي كما تري ليست مهمة هاروت وماروت في بابل على نحو ما وصفها القرآن. ولكنهم وجدوا في كتاب بالحبشية ينسب إلى أخنوخ أيضا، أن ثمة ملائكة هبطوا يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة وقطع الأرحام، فربما أخذ القرآن التسمية من أخنوخ السلافي، وأخذ الوظيفة من أخنوخ الحبشي. إلى آخر ما قالوا.

لم يهتد المستشرقون إذن إلى وجه في "هاروت وما روت" إلا هذا ، وهو ركيك كما ترى، ولكنه يريك إلى أي مدى يتخبط أولئك المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن : زعموا أن القرآن يتوكأ على معاصريه من أهل الكتاب فكيف علم القرآن ما جهلوه؟ كيف حفظ هو أخبار أخنوخ السلافي وأخنوخ الحبشي، واضاع أصحاب التوراة الأصل العبري لسفر ينسب إلى أخنوخ؟ أكانت أنباء أخنوخ أخباراً يتناقلها الرواة على عصر النبي، خفي أمرها على يهود اليمن والحجاز والشام؟ فكيف خفيت على مفسري القرآن وقد توقفوا في هاروت وماروت؟ ولماذا اختلفت رواية أخنوخ السلافي عن أخنوخ الحبشي؟ أترجم الترجمان كل بمعزل عن " أخنوخ" واحد أم عن " أخنوخين" اثنين؟

فكيف أخذ القرآن نتفة من هنا ونتفة من هناك؟ كيف تسني له الجمع بين هاتين الروايتين في نسيج واحد؟ أفقد اطلع القرآن على الترجمتين معاً فانفرد وحده بعلم السلاف والأحباش وخفي علم هؤلاء على هؤلاء؟ أو قد فرغ القرآن نفسه لجهد استنفد من جمهرة المستشرقين سنين في تتبع أخبار السلاف والأحباش والجمع بينها كي يصوغ منها في النهاية خبراً يأتي عرضاً في آية أو بعض آية؟ فما بالك بغير "هاروت وماروت" من أخبار القرآن، ومن علوم القرآن. وما أدراك ما علوم القرآن؟ أنى يتسع لبعض هذا جهد بشر، أو عقل بشر، أو عمر بشر، فرداً أو جماعة، وإن عكفوا عليه أجيالاً؟

علي أن أحداً من هؤلاء المستشرقين - يهود ومسيحيين، ومنهم المؤمن والملحد لم يتوقف لمناقشة "سفر التكوين" في روايته لفتنة الملائكة ببابل، على ما مر بك من قوله إن "الله" هبط ببابل ليبلبل ألسنة الخلق فيتفرق شملهم و لا يتموا بناء المدينة ، ومقصوده بالطبع أن "الملائكة" هم الذين هبطوا، لا الله عز وجل (وهذا كثير في لغة التوراة): صاغ كاتب سفر التكوين روايته ليؤصل بها فهمه لمعنى "بابل"، وليفسر رأيه في سبب اختلاف ألسنة البشر، ولم يصب الكاتب كما مر بك في هذا وذاك جميعا، ناهيك بوهمه أن المدينة لم يتم بناؤها ، وربما شهد فيها أطلالا ظنها أبنية لم تكتمل (بنيت بابل حوالي 2800ق م ، وقد خربت وأعيد بناءها مرات، وكتب سفر التكوين على الراجح عند محققي نصوص التوراة بعد بابل الأولي بنحو ألفي سنة).

هبط الملائكة إذن في بابل كما يقول سفر التكوين، ولكن لمهمة غير التي ذكرها الكاتب، لأن الملائكة إذا أمروا فعلوا، فتحقق مراد الله عز وجل، ولكن الملائكة لم يؤمروا بهذا الذي ذكره سفر التكوين، فلم يهبطوا من أجله ولم يفعلوه، بدليل أنه لم يحدث ، وهو لم يحدث - تقولها بيقين لا شك معه، لأن ألسنة الناس لم تتبلبل في "بابل" التي بنيت أول ما بنيت في مطلع الألف الثالثة قبل الميلاد، وإنما هي تبلبلت فبل مولد بابل - ومن ثم قبل نزول أولئك الملائكة المكرمين بقرون لا يعلم عدتها إلا الله: حسبك أن المصريين وجدوا في مصر قبل أن توجد بابل، وهم كما تعلم يتكلمون لغة غير اللغة، بل حسبك أن الشومريين الذين غلبهم الساميون البابليون على أرض العراق (بابل من بعد) عاشوا على أرض بابل قبل وفود البابليين على تلك الأرض، ولا صلة محققة بين اللغتين الشومرية والبابلية. قد تباينت ألسنة الناس إذن وتفارق الخلق من قبل أن تولد بابل، ولا حاجة من ثم بالملائكة إلى إحداث ما هو حادث.

فيم إذن كان نزول الملائكة ببابل؟ اليس أقرب إلى المعقول ما ذكر في سفر أخنوخ الحبشي من أن ملائكة هبطوا إلى الأرض يعملون الناس فنون السحر والشعوذة و "قطع الأرحام" ؟ ألا يذكرك "قطع الأرحام" بما قاله القرآن في شأن هاروت وماروت: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} (102) سورة البقرة؟
كيفما كان الأمر، فقد كان هاروت وماروت فتنة للناس. ولكنها لم تكن فتنة معماة، وإنما فتنة على بصيرة:
{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (102) سورة البقرة، أي تعلم منا هذا كيلا تعمله، إن حدثتك به النفس، أو علمك إياه شيطان.

وتستطيع أن تنسق على هذا أن " هاروت " و " ماروت" الملكين المكرمين لم يكفرا بما علماه الناس في بابل، لأنهما كانا به مأمورين فتنة للمتلقين منهما، تبصيرا للناس، وزجرا للناس عن إتيان السحر وعن تعلمه وتعليمه.

*****

أما قول مفسري القرآن في " هاروت" و " ماروت" و " بابل" (راجع تفسير القرطبي للآية 120 من سورة البقرة) ، فقد توقفوا في تفسير معنى " هاروت" و " ماروت" مكتفين بأنهما علمان أعجميان منعا من الصرف للعجمة ، هذا يدلك على أن أهل الكتاب المعاصرين لهؤلاء المفسرين لم يكن لديهم هم أيضا شئ في تفسير معنى هذين العلمين ، فتستنبط من هذا أن أهل الكتاب هؤلاء كانوا إلى ما بعد عصر نزول القرآن لا يعلمون شيئا عن "أريوخ" و "مريوخ" في أخنوخ السلافي، ولا عن الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض يعلمون الناس فنون السحر والشعوذة وقطع الأرحام في أخنوخ الحبشي، لا بأصل هذه الرواية ولا بترجمتها السلافية أو الحبشية اللتين استخرجهما المستشرقون من أوراق الكنيستين البلغارية والحبشية ، وان القرآن كان أسبق من هؤلاء وهؤلاء إلى مجمل هاتين الروايتين.

وأما قول مفسري القرآن في معنى "بابل"، فقد تابعوا أهل الكتاب في تفسير معناها بالبلبلة، ورددوا دون تثبت رواية سفر التكوين في المقصود من ذلك هو التعليل لتفاوت ألسنة الخلق، ولم يلتفتوا إلى قوله عز وجل:
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (22) سورة الروم، أي أن المخالفة بين ألسنة الناس آية ماضية في الخلق منذ بدء الخلق بآدم، شأنها شأن المخالفة بين ألوانهم، لا شان لها ببلبلة الملائكة في بابل: لو صح هذا الذي رواه سفر التكوين لتوقف عدد لغات أهل الأرض عند الذي انتهت إليه محنة بابل، ولكن الذي حدث هو أن لغات البشر لا تزال إلى اليوم تموت وتتوالد.

****

علي أن "أريوخ"، "مريوخ" ، لم يجيئا في "أخنوخ السلافي" عبثا: إنهما على الراجح عندي الرسم السلافي لهذين العلمين القرآنيين "هاروت" و "ماروت" . ولكن القرآن لم يعربهما عن السلاف كما ظن أدعياء الاستشراق على ما مر بك، ولكنه عربهما عن الأصل الذي تكلم به الناس في بابل ، والذي تحرف على قلم مترجم كتاب" أخنوخ السلافي".

فأنت تعمل أن مهبط هذين الملكين قد كان ببابل، فتقطع بأنهما تعرفا - أي تسميا- لأهل بابل بلغة أهلها.
والبابلية لغة سامية بادت، وما تجمع للغويين من ألفاظها نزر يسير، على شك في صحة نطقه ومعناه، استظهروه من كتابات بخط مسماري سبق إليه شومريون - غير ساميين - فخلا من أصوات تختص بها اللغات السامية، واستخدمه من بعدهم البابليون على علاته، فلا تدري أفسد لسانهم باستخدام ذلك الخط أم اعتجم علينا نطق ما كتبوه، أم كلا الأمرين معا. ومن ثم لا يستطاع رد اشتقاق هذين الاسمين "أريوخ"، "مريوخ" إلى أصل بابلي مقطوع بمعناه. على أن في عبرية التوراة الاسمين العلمين "أريوخ"، "مريوت"، الأول بمعنى "الأسدي" (أي الشبيه بالأسد) والثاني بمعنى "المراء" على الجمع ( أي "مراءات") وكلاهما في عبرية التوراة علم مذكر. واللفظ "آرا" ، "آري" في كل من البابلية والعبرانية والآرامية معناه "الأسد" (وهي "هر" العربية بضم الهاء وتشديد الراء ومعناها الأسد لا "هر" مكسورة الهاء بمعنى "القط") ، أما الواو والخاء في "أريوخ" فهي في البابلية الفارسية تفيد النسب على الصفة. وربما قلت إن "مريوت" العبرانية أصلها "مريوخ" البابلية الفارسية (مري+ وخ) على النسب إلى "مري" يعني العجل المسمن (وهو "الماري" في العربية). ومن ثم يكون معنى هذين الاسمين "أريوخ" و "مريوخ" ، هو المنسوب إلى الأسد والمنسوب إلى العجل" الماري" . وليس على هذا أو ذاك دليل تستريح إليه.

أما الذي نقوله نحن، فهو أن العلمين "هاروت" و"ماروت" لم تثبت لهما العلمية في الكتب السابقة حتي يلتزم القرآن بالاتيان بهما على ما جاءا به في التوراة والإنجيل على نحو ما مر بك، وإنما جاء بهما القرآن على أصلهما في العربية الأولي. وقد جاء بهما القرآن على زنة المبالغة "فعلوت"، كما تجئ "طاغوت" من "طغي"، "جالوت" من "جلا" ، "طالوت" من "طال".

إنهما على الراجح عندي تعريب على التفسير من الهراء والمرية، أو الهرء والمأر (أي القطع والإفساد) ، تسمية لهما لذلك "العلم" الذي علماه الناس في بابل، وكانت به " الفتنة" التي تعرفا بها للناس : {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (102) سورة البقرة.

أما " بابل" في القرآن فهي مفسرة بذاتها لا تحتاج إلى تفسير، وقد علمت أنها من البابلية " باب+ ايلو" ، أي "باب + إل" ، يعني "باب الله" ، سهلت همزتها على المزجية ، ورغم أنها جاءت على وزن شائع في العربية وهو "فاعل"، فقد منعت من الصرف للعلمية والتأنيث قبل المزجية وقبل العجمة.

ولكنك تستشف من القرآن تفسيرا لمعنى بابل بالتصوير، أي بالسياق العام. فأنت تعلم أن البابليين كانوا من عبدة الكواكب، يديمون النظر في النجوم، وأنهم بنوا ذلك "البرج" الذي سميت به المدينة من بعد "باب ايلو"، والمقصود بالطبع "باب السماء" ، معبدا لإلههم الأكبر"مردوخ" (كوكب المريخ على الراجح)، كوة نافذة في السماء يرصدون منها آلهتهم هذه، على نحو ما فعل فرعون: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (38) سورة القصص.

أرادوها كوة نافذة في السماء يرقبون ويتسمعون، فكان لهم ما أرادوا : كان "الباب" الذي صنعوا ، باباً نزل عليهم منه هاروت وماروت بالفتنة: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} (102) سورة البقرة.

(2)
هود – إرم - عاد

لا يعرف أهل الكتاب "هودا" ولا "عادا" ولكنهم يعرفون "إرم"، وهي عندهم "آرام" يعني "العالية" أو "المعلاة"، من الجذر العبري "رام/يروم" أو "رام/يرام"، أي ارتفع وعلا، فهو عال وعلي، ومن هذه "أبرام" ، أي "أبو العلاء"، اسم إبراهيم عليه السلام في التوراة، قبل أن يبتليه الله بكلمات فيتمهمن، فيسميه باسمه المعروف "إبراهيم". وسيأتي. ولا تزال أحرف هذا الجذر باقية في العربية تجدها في "رامه" يعني طلبه، وكأنها من استشرفه وتطلع إليه، وتجدها أيضا في "رمى" (لازما غير متعد) بمعنى ربا وزاد، وتجدها كذلك في "رام عليه" بمعنى فضل عليه زاد. لكن "رام" بمعنى علا وارتفع، غير معروف في العربية، فتستظهر من هذا أن "إرم" أعجمي غير عربي، يحتاج إلى تفسير في القرآن. وإلا لظننت "إرم" عربية من "أرمه" يعني استأصله وأفناه، أو أنها "الإرم" بمعنى الحجارة أو نحوها تنصب في المفازة ليهتدي بها (وتجمع على آرام وأروم) أو ظنتها بمعنى الأصل و"الارومة"، وقد فصل القرآن في هذا كما ستري.

علي أن عجمة "إرم"، وهي مدينة عاد قوم هود، توحي إليك بأن عاداً وهوداً لفظان أعجميان كذلك ، أعني أنهما من "العبرية الأولي"، التي يحتاج فهمها أحيانا إلى بحث في فصائل سامية عن جذور أميتت في العربية وبقيت حية في غيرها تقول بعجمة "هود" و"عاد" على الإتباع لعجمة "إرم" جازما قاطعا، لأن الرسول والمرسل إليهم واحد.

***********

أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيات 65-69 من سورة الأعراف والآيات 50-60 من سورة هود) فقد اتفقوا على عجمة "عاد"، اسم رجل تسمت به قبيلته، نسبه ابن إسحاق إلى نوح فقال: هو عاد بن عوص بن إرم بن شالح ابن أرفخشد بن سام بن نوح (وكأنه يستقي من أحبار يهود ولكنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني كما قال الحق سبحانه فليس هذا هو عمود النسب في سفر التكوين بل ليس فيه أصلا "عاد"). ولكنهم تفاوتوا في عجمة "هود" (الاسم لا المسمي بالطبع) فقال بعضهم هو عربي تشتقه من الجذر العربي"هاد/يهود" أي تاب ورجع إلى الحق، وقال الباقون ومنهم ابن إسحاق إن"هودا" أعجمي، فهو هود بن عبدالله ابن رباح بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم الخ. وهذا أيضا على خلاف عمود النسب في سفر التكوين، بل ليس فيه أصلا هود، ناهيك بعبد الله والجلود.

أما قول مفسري القرآن في "إرم" (راجع تفسير القرطبي للآيتين 6-7 من سوه الفجر) فمنهم من قال جد عاد، نسبت إليه القبيلة فجاء اللفظ على التأنيث (ذات العماد) ومنهم من قال بل هو اسم مدينتهم، وشرحوا"ذات العماد" بأنها الأبنية العالية المرتفعة – وهو الصحيح في اللغة – وكأنهم يبنون أبنيتهم على العُمد. ومنهم من أشكلت عليه "عاد الأولي" (النجم:50) فظن أنهم "عادان"، أولى وثانية، "عاد إرم"، "عاد هود"، والصحيح ما قاله الآخرون، فليس إلا "عاد" واحدة، أهلكها الله أولا، ثم ثني بــ "ثمود"، فالقرآن لا يذكر عادا قوم هود إلا وهو يتبعها بثمود قوم صالح.

علي أن في حضرموت نبعا يدعي "برا- هوت"، اشتهر منذ القدم بأدخنته الكبريتية، بجواره قبر يدعي قبر"هود" يزوره الناس إلى اليوم ويتبركون به. يصح هذا أولا يصح فنحن لا نستطرد بك إليه، ولكن المستشرقين الذين ذكروه يلفتون النظر إلى ما قاله المفسرون من أن "عادا" كانت منازلهم ما بين اليمن وحضرموت، فهو إذن من أنبياء العرب. ويري هؤلاء المستشرقون أيضا أن هودا هو نفسه "عابر" الذي يرتفع بنسبه إلى سام بن نوح. وإلي عابر هذا ينتسب "العبرانيون" كما تعلم. وربما شجعت الجالية اليهودية في شبه الجزيرة هذه المقولة رغبة في إيجاد نسب موغل في القدم بينهم وبين مضيفيهم، تأليفاً لقلوب العرب عليهم، فقالوا إن "يهود" جاءت من "هود"، فهم إذن بنو- هود، النبي العربي. وليس بشئ إن أردت قرابة النسب، فاليهود أنفسهم يشتقون "هو" من "يهودا" بن يعقوب (وتنطق داله في العبرية ذالا لاعتلال ما قبلها كما مر بك) وليس تاصيل الأنساب من مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب. ولكن لا بأس بهذا الذي قيل في أخذ "يهود" من "هود" إن أردت القرابة اللغوية في النحت والاشتقاق، ولو أن اللغات السامية جميعا في هذا سواء.

*********

أما "هود"- إن أردتها عربية- فهين تسمية مشتقة من الجذر العربي هاد/ يهود/هودا، فهو "الهائد"، أي التائب الراجع إلى الحق (وتاب وثاب وآب كله واحد). تجد تأصيل هذا في القرآن من قوله عزوجل على لسان موسى في فتنة السامري: { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} (155-156) سورة الأعراف، أي رجعنا وأنبنا. لا تجد لها تأصيلا في العربية إلا من القرآن، وفي هذه الآية بالذات. ومنها أيضا يشتق القرآن معنى اسم اليهود (وسيأتي في موضعه) فيسميهم الذين هادوا في عشرة مواضع من مثل قوله عزوجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} (62) سورة البقرة، ويسميهم أيضا"هود" (جمع "هائد" أي الذي هاد) في ثلاثة مواضع من مثل قوله عزوجل يحكي مقالتهم: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ} (135) سورة البقرة، نافيا أن يكون هذا هو اسمهم قبل أن يقولها موسى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (140) سورة البقرة.

وليس معنى القول بعربية اسم "هود" - على إيغاله في القدم كما مر بك - أنه بالضرورة من هذه العربية نفسها التي نزل بها القرآن، وإنما المعني أن اسمه من"العربية الأولى" التي تكلم بها سكان شبه الجزيرة جميعا منذ أزمان سحيقة لا يعلمها إلا الله، وتفرقت من بعد في الساميات جميعا، وإنما نفهم نحن مفرادتها الآن بخاصية في تلك اللغة الفذة، هي "جذرها الثلاثي"، الذي تدور معانيه على أصل حروفه. وقد أصل القرآن معنى "هاد" على التوبة والإنابة، فهو كما قال، لأن القرآن هو الشاهد لتلك اللغة العربية في كافة مراحل تطورها، لا حاجة بك معه إلى غيره.

وربما قلت إن "الهائد" تفيد "المهدي"، لا لقرابة ما بين الجذرين" هدي" و"هاد" فحسب، وإنما أيضا لأن "الهائد" هو عكس "الضال". وفي هذا لفتة بعيدة المغزى قد تفوت على كثيرين: إنه نعت ينطبق على كل نبي بعث في قوم ضلوا جميعا سواء السبيل، ليس فيهم إلا هو وحده الذي انسلخ من ضلالتهم: هاد إلى الله وحده، فبعثه الله إليهم ليهديهم به، ولا يهدي غيره إلا الذي هاد من قبل، فهو الهائد المهدي، وهو الهادي المهتدي.

لم يكن "هود" عليه السلام من أنبياء التوراة، فجاء اسمه في القرآن على أصله عربيا، على ما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب، لا يحتاج إلى "فك عجمته" بالتفسير، إلا ما كان من تأصيل معنى الجذر"هاد" في قوله عزوجل على لسان موسى: "إنا هدنا إليك".

علي أن أسفار التوارة (أخبار الأيام الأول 7/13) الاسم "هود" (مداً بالضم لا بالواو كما في "يوم" العربية العامية أو في Home الانجليزية) علماً على رجل من عامة سبط أشير، ليس بنبي أو رسول. ولكن علماء التوراة لا يشتقون "هود" الإسرائيلي هذا من التوبة والإنابة، ولكنه عندهم مصدر أميت جذره وبقي المصدر في لغتهم بمعنى الجلال والجمال والسناء، ومنه في العبرية المعاصرة"هود ملخوتو" خطاباً للملوك بمعنى "صاحب الجلالة". ولو كان المعني هو "هود" النبي لشاعت التسمية في بني إسرائيل، وهو مالم يحدث.

********

أما "عاد" و"إرم" فلا مجال لاشتقاقهما من العربية التي نزل بها القرآن، وإنما تشتقهما من العربية الأولي مستعينا بما بقي من جذروها في الآرامية والعبرية، ومن ثم كانتا من الأعجمي الذي يفسره القرآن.

"عاد" في الآرامية – العبرية معناها "الأبد" و "الخلود". ومنها في العبرية "لعاد"، يعني "إلي الأبد". فهي الباقية الخالدة التي لا تزول. وقد جاءت مفسرة في القرآن مرتين، الأولي على الترادف في قوله عزوجل: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} (8:6) سورة الحاقة. وفسرت في المرة الثانية على التقابل في قوله عز وجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} (51:49) سورة النجم، أي ما عادت عاد ولن تعود.

وأما "إرم" فهي في الآرامية - العبرية مشتقة من العلو والعلاء، فهي العالية والمعلاة، كما مر بك من معنى الجذر العبري "رام – يروم" . وقد وردت" إرم" في القرآن مرة واحدة فسرت فيها بهذا المعني نفسه، ولم يفطن إليه مفسرو القرآن رغم علمهم بأن " ذات العماد" تعني المدينة ذات الأبنية العالية المرتفعة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (8:6) الفجر، وهو تفسير على الترادف اللصيق: إرم = ذات العماد. ودل قوله عزوجل "لم يخلق مثلها في البلاد" على أن القرآن يريد إرم المدينة لا عاداً القبيلة كما وهم بعض المفسرين الذين ظنوا أن إرم في القرآن هي نفسها عاد، اسم القبيلة، نسبة إلى الرجل إرم بن سام بن نوح، وليس هذا بفصيح في عربية القرآن الذي إذا أراد القبيلة جاء بضمير الجمع للمذكر: "وأما عاد فأهلكوا"، وإذا أراد المدينة أي الموضع استخدام ضمير المؤنث: "التي لم يخلق مثلها في البلاد".

أما " الإرميون" أصحاب إرم، أعني الناجين منهم مع هود، فهم آباء "الآرامين" الذين قدر لسلالة منهم في "الحجر" إلى الجنوب الغربي من تيماء بالمملكة العربية السعودية على طريق القوافل إلى الشام أن تسكن في نواحي "الحجر" ما يعرف إلى اليوم باسم "مدائن صالح" أو "قرآ صالح"، التي قيل أن الرسول صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك نهى عن التلبث بأطلالها كراهة المكث بموضع السخط والنقمة: إنهم "ثمود" أصحاب "الحجر"، قوم صالح.

(3)
صالح - ثمود

يرد الاسم "إرم" في التاريخ المدون، وفي جغرافية التوراة، بصورة عبرية آرامية هي "آرام" ليست هي إرم عاد التي في القرآن، وإنما المراد منها هو"سورية" بالمعني العام، سميت بهذا الاسم نسبة إلى قوم من العرب وفدوا عليها حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد: جاءوها بلغتهم هم "الآرامية"، وخلعوا عليها اسمهم هم "الآراميين"، فصارت سورية "ارس آرام" أي أرض آرام.وقد مر بك أن "إرم" فسرت في القرآن بمعنى العالية أو المعلاة (إرم ذات العماد)، وهو نفسه معنى لفظ "آرام" في اللغتين العبرية والآرامية، فتقطع بأن "الآراميين" هم "الإراميون" أصحاب إرم التي في القرآن، سلالة من الناجين مع هود تفرقوا في البلاد في عصور سابقة على وجود الآراميين في سورية. دليلك في هذا من القرآن على لسان صالح عليه لاسلام يحذر قومه مصير أسلافهم قوم هود: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} (74) سورة الأعراف، ولم تخلف ثمود عادا على نفس الأرض، فشتان ما بين الحجر في الشمال الغربي من شبه الجزيرة وبين "آرام نهريم" أي آرام ما بين النهرين، يعني "إرم العراق"، وإنما كان أصحاب الحجر فحسب "سلالة من الناجين مع هود" خرجوا بعد نكبة "إرم ذات العماد" من ناحية ما في جنوبي بابل إلى حضرموت واليمن يحملون معهم اسم مدينتهم "إرم" أو "آرام" التي صارت علما عليهم فسموا "الإراميين" أو "الآراميين"، ثم ارتحلت بطون منهم في زمن لاحق إلى الشمال، ثم استقرت فصائل منهم في منطقة الحجر على طريق القوافل إلى الشام، كانوا هم "ثمود" قوم صالح. وتلمح في قول صالح عليه السلام يعظ قومه: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} (74) سورة الأعراف، أن ثمود أرادوا محاكاة"ذات العماد" في العلو تحناناً إلى موطنهم القديم، ولكنهم لم يذكروا آلاء الله عليهم. بل ظلموا بها، فدمر الله عليهم "إرم الثانية"- إرم صالح- كما أهلك من قبل "عاداً الأولى"، إرم هود. ومن هذا قوله عزوجل: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} (50:49) سورة النجم، فتفهم أن ثمود هي "عاد الثانية".

***********

لم يكن صالح عليه السلام من أنبياء التوراة، ومن ثم فاسمه كما علمت من منهجنا في هذا الكتاب، يجئ على أصله عربيا، لا يحتاج إلى تفسير. ولا يترتب على عربية هذا الاسم أن صالحا عليه السلام كان عربيا من بني إسماعيل، بل هو آرامي من قوم آراميين، سلالة من الناجين مع هود، واسمه – كاسم هود- مشتق من العربية الأولي التي تفرقت جذورها في الساميات جميعا. دليلك في هذا أن صالحا سبق إبراهيم – أبا إسماعيل وعم لوط- بقرون لا يعلم عدتها إلا الله. ودليلك فيه أيضا أن "قري صالح" أقرب إلى الشام من الحجاز، ناهيك باليمن.
علي أن الجذر العربي"صلح" باق بذات حروفه ولفظه ومعناه في العبرية والآرامية، ومنه على زنة الفاعل في الآرامية بالذات- لغة قوم صالح كما مر بك - "صاليح" (مدا للام بالكسر لا بالياء كما تنطق في "ليه" العربية العامية أو في Late الانجليزية) بمعنى "الذي صلح". فهو إذن في العربية والآرامية واحد، يعرب فقط بتقصير مد "كسرة اللام"، فيؤول إلى "صالح" العربية بنفس معناها ونطقها في القرآن.
"صالح" إذن مفسر في القرآن بالتعريب وحده، بل هو أبين أمثلة القرآن في التفسير بالتعريب.

وقد ذهب مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآيتين رقم 73 كم سورة الأعراف ورقم 80 من سورة الحج) إلى أن صالحا وقومه كانوا قوما عربا، ولكنهم نسبوهم إلى العرب البائدة كعاد وطسم وجديس، وهذا يطابق ما قلناه نحن إن تمعنت لأن سكان شبه الجزيرة جميعا عرب بالمعني العام، لا يقدح في هذا تفاوت لهجاتهم ومنطقهم مهما بعدت عن العربية التي نزل بها القرآن. وهذا يدلك أيضا على علم العرب قبل القرآن بثمود، لا بوصفهم قوم صالح، وإنما بوصفهم قبيلة من قبائل العرب التي بادت، وهو علم شاركهم فيه أهل الكتاب معاصرو القرآن، وإن خلت أسفار التوراة من النص على قصة صالح مع قومه. بل قد ذكر مؤرخو اليونان، قبل القرآن بقرون "ثمود" و "لحيان"، وقالوا إن منازلهم كانت من جنوب العقبة إلى نواحي شمال ينبع بالقرب من الويلح وأنه كانت منهم جموع منتشرة في داخل البلاد إلى نواحي خيبر وفدك. وليس هؤلاء بالطبع هم "ثمود صالح"، وإنما هم سلالة من الناجين مع صالح، خلفوهم وانتسبوا إليهم.

*******

أما "ثمود" فهي عربية أيضا بالمعني الذي ذكرناه: ثمد الماء يعني قل، وثمده هو يعني استنفد معظمه، وثمد الناقة يعني اشتفها بالحلب، وثمده يعني استنفد ما عنده، والثمد يعني الماء القليل الذي ليس له مدد، أو هو المكان يجتمع فيه الماء، من ثمد المكان يعني هيأه كالحوض ليجتمع فيه الماء. وعلي هذا تكون "ثمود" على زنة فعول بمعنى فاعل، أو فعول بمعنى مفعول، على المعاني الذي ذكرت لك، فهم أصحاب الماء القليل، يستنبطونه من الأرض ويحوضونه، الحريصون عليه. يذودون عنه ويمنعونه، فهو حجر عليهم، حرام على غيرهم. ومن هنا جاءت تسميتهم "أصحاب الحجر" (الحجر:80).

وقد جاءت "ثمود" مفسرة في القرآن بالتصوير في فتنة الناقة التي جعلها الله لهم آيه: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} (28:27) سورة القمر، "تشتف" ماءهم كله يوما، وتفيضه عليهم في الغداة لبنا إذ لا ماء لهم، "فيشتفونها"، "تثمدهم" و "يثمدونها".

وقد وهم بعض مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 38 من سورة الفرقان) أن "أصحاب الرس" هم ثمود قوم صالح، أصحاب تلك "البئر الحجر" لأن "الرس" في العربية معناها "البئر". وقد وردت "الرس" في القرآن مرتين: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} (38) سورة الفرقان، {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} (12) سورة ق. ولا يصح قول المفسرين في هذا لأن القرآن يعطف بالواو أصحاب الرس على ثمود في الآية الأولى، ويعطف ثمود على أصحاب الرس في الآية الثانية، لا يجتزئ من الواحدة بالأخرى كما قال "أصحاب الحجر" يعني قوم صالح، وكما قال "أصحاب الأيكة" يعني أهل مدين، قوم شعيب. أصحاب الرس إذن ليسوا قوم صالح، وإنما هم قوم آخرون أخبر القرآن بمهلكهم، ولم يسم نبيهم، في قرون قد خلت بين نوح وإبراهيم. بل وبعد إبراهيم، كما قال عزوجل: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (45) سورة الحـج، وإن كان قد وجد من المفسرين(راجع تفسير القرطبي لهذه الآية من سورة الحج)، من جمع بين تلك البئر المعطلة وبين بئر ثمود. كل هذا يعارض ظاهر القرآن، فلا تلتفت إليه.

********

وقد بقي في العبرية والآرامية من "ثمد" العربية الجذر العبري- الآرامي "شمد" (بإبدال الثاء شينا)، بمعنى الاستئصال والإبادة، وهو من معنى الاستنفاد والاشتفاف في ثمد العربية جد قريب. وتستخدم العبرية المعاصرة الفعل"شمد" بمعنى محدد هو "استصفاء" اليهودية، يعني تصفيتها سلما، بإجبار أهلها كرها على الخروج منها إلى "المسيحية" في عصور اضطهادهم في أوربا، لا بمعنى إبادة أهلها وإهلاكهم، على أصل معنى "شمد" في عبرية التوراة، وربما قلت إن "ثمود" في القرآن جاءت تعريبا لـ"شمود" العبري أو "شميد" الآرامي على المفعولية من الجذر العبري- الآرامي "شمد" فهو الهالك البائد بمعنى "شمد" في عبرية التوراة. ولا يصح هذا، فلا أحد يسمي نفسه الهالك البائد وقد تسمت به قبيلة من كبرى قبائل العرب خلفوا "ثمود" قوم صالح كما مر بك. وإنما الصحيح أن "ثمود" جاءت من العربية الأولى بمعنى قل ونضب واستنفد واشتف، قبل أن تتحور في عبرية التوراة إلى باد وهلك.


(4)
شعيب - مدين

مر بك أن القرآن يضع شعيبا في الترتيب الزمني بعد لوط. ومر بك أيضا أن لوطاً من معاصري إبراهيم. بل كان إبراهيم عم لوط كما تنص التوراة. والقرآن ينص على تعاصر إبراهيم ولوط، لأن الملائكة الذين بعثوا لإيقاع العذاب بقوم لوط، مروا في طريقهم على إبراهيم يبشرونه بإسحاق. نص القرآن على هذا في أكثر من آية، منها قوله عزوجل: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (70:69) سورة هود. شعيب إذن بعد إبراهيم بلا خلاف، لمجئ شعيب بعد لوط معاصر إبراهيم أو ابن أخيه كما تقول التوراة. دليلك في هذا من القرآن أن لوطا لم يعلم بشأن شعيب مع قومه، بل حذر لوط قومه مصير قوم نوح وقوم عاد وقوم صالح، وما كان ليحذرهم مصير قوم شعيب، وشعيب لم يبعث بعد. أما شعيب فهو يحذر قومه مصير قوم لوط: { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} (89) سورة هود.

لم يكن أهل مدين- الواقعة جنوبي خليج العقبة- يسكنون بعيدا عن مدائن لوط، وقد بقيت منها "صوعر" على الشاطئ الجنوبي الشرقي من البحر الميت. ولم يكن "يوم الظلة" - مهلك الذين ظلموا من قوم شعيب - بعيداً كل البعد من فجر يوم وضع فيه جبريل جناحه تحت "القرية التي كانت تعمل الخبائث" فجعل عاليها سافلها.

ولكن التوراة التي اهتمت في سفر التكوين بتدوين ما كان من شأن لوط مع قومه، تصمت الصمت كله عما كان من شأن شعيب مع أهل "مدين"، على قرب مدين من مساكنهم. والتوراة تغفل الحديث عن قصة شعيب مع قومه عمدا، رغم هول العذاب الذي حاق بمن ظلموا من قومه، ورغم قرب "مدين" من "صوعر"، ورغم أن شعيبا تلا لوطاً وإبراهيم بفارق زمني "غير بعيد"، ولم يسبقهما، ورغم أن التوراة تذكر "مدين" بنحو ما ذكرها القرآن في قصة لجوء موسى إلى "مدين" فرارا من بطش فرعون بعد أن قتل موسى ذلك المصري الذي بغي على رجل من قومه. تتعمد التوراة إغفال شعيب - على الراجح عندي - لأنه عندها كان نبيا من غير بني إبراهيم، ولم يكن أيضا من بني يعقوب، أي من بني إسرائيل، الذين كتبت التوراة لتسجيل أخبارهم ونبواتهم. وهو - على الراجح عندي أيضا- سبب إغفال التوراة هودا وصالحاً كذلك، كيلا تضع أنبياء بين نوح وإبراهيم. وإنما حرصت التوراة على ذكر"نوح" كي تربط ما بين إبراهيم وآدم. وقد تعجل كاتب سفر التكوين هذا النسب كما مر بك بين آدم ونوح، وبين نوح وإبراهيم، حتى لتكاد تستخلص من حساباته أن نوحا كان أو يكاد من معاصري إبراهيم، فكيف يكون بينهما نبي؟

وربما قلت إن أسفار التوراة لم "تتكتم" أخبار شعيب، وإنما هي لم تعلم أصلا بمبعث شعيب إلى أهل مدين في التوراة ما بين لوط إلى موسى، لغياب بني إسرائيل آنذاك عن مسرح الأحداث في فلسطين وما حولها منذ خروج يعقوب وبنيه إلى مصر في ضيافة يوسف واحتباسهم فيها نحوا من أربعمائة وثلاثين سنة كما تقول التوراة حتى خروجهم منها إلى تيه سيناء مع موسى: اهتمت أسفار التوراة بأخبار بني إسرائيل في مصر سنوات احتباسهم فيها (وإن كانت في واقع الأمر تجتزئ اجتزاء مخلا فتنقلك فجأة من وفاة يوسف إلى مولد موسى غير عابئة بأحداث ما كان بين هذين النبيين الكريمين اللذين يفصل ما بين مبعثهما حوالي أربعة قرون) ولم تهتم، بل قل ولم تعلم، بما وقع خارج مصر خلال تلك القرون الأربعة، أخبار شعيب أو غير شعيب. وهذا التعليل - على وجاهته - مردود بما تقصه عليك التوراة من لجوء موسى إلى مدين فرارا من بطش فرعون، وإصهاره إلى "كاهن مدين"، وبقائه عنده عشر سنين، بل وعودته إلى لقاء صهره في التيه بعد خروج بني إسرائيل من مصر، فباركه صهره وأشار عليه باختيار نقباء يقومون مقام موسى في قومه. يحدث هذا كله ولا يقص عليه "كاهن مدين" شيئا مما كان من أمر شعيب في أهل مدين، إن سلمت بأنه قد كان ثمة "شعيب" بعثه الله إلى أهل مدين في الفترة ما بين لوط إلى موسى، ناهيك بأن تقول كما قال جمهور مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 85 وما بعدها من سورة الأعراف) أن صهر موسى هذا هو بعينه شعيب عليه السلام "أخو مدين".

علي أن التوراة لا تعترف لأحد من خارج بني إبراهيم بالنبوة مهما كان على دين الواحد الأحد، فلا تسميه "النبي" وإنما تسميه "الكاهن". من ذلك "ملكي - صادق" ملك شاليم (وهي "سليم" العربية)، الذي بارك إبراهيم وأدي له إبراهيم "العشر من كل شئ"، وتقول عنه التوراة "وكان (أي ملكي - صادق) كاهنا لله العلي" (راجع تكوين 14/18-20), ومن ذلك أيضا "يثرو" حمو موسى، الذي تسميه التوراة "كاهن مدين" (خروج 3/1).

ولحمي موسى عند أصحاب التوراة اسم ثان هو "حُباب" (وكأنه "الحُباب" عربيا فليس في أعلام بني إسرائيل من تسمي به)، وله أيضا اسم ثالث هو "رعوئيل"، ومعناها "راعي الله"، ويفسرونها في العبرية بمعنى "خليل الله". على أنك تستنبط من أسفار التوراة نفسها اسما رابعا لحمي موسى هو "دعوئيل" (بالدال لا بالراء) لأن أسفار التوراة تخلط بينه وبين "رعوئيل" (بالراء لا بالدال) في تسمية شخص بعينه، تسميه "إلياساف بن دعوئيل" (بالدال) في سفر العدد(1/14) ثم تسميه هو نفسه "الياساف بن رعوئيل"(بالراء) في الإصحاح التالي مباشرة من السفر (عدد2/14). وقد عالج علماء العبرية تفسير معنى اسم دعوئيل هذا (بالدال) فقالوا إنه من الجذر العربي "دعا"، فهو "داعي الله"، لأنه لا وجود في العبرية للجذر "دعا"، فتفهم أن "رعوئيل" عندهم تحرفت إلى "دعوئيل" لاشتباه رسم الدال بالراء في الخط العبري كما هما في الخط العربي، أو أن "دعوئيل" العربية هي التي تحرفت عليهم فصارت " رعوئيل" وهو الراجح.

(قد تفهم من (عدد 10/29) أن "حُباب" هذا هو ابن رعوئيل حمي موسى، وتقرأ لعلماء التوراة بعض يقول بل حباب حموه، وآخرون يقولون بل رعوئيل هو أبو حمي موسى. وصدق الحق إذ يقول في وصف القرآن: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (82) سورة النساء.)

كيفما كان الأمر، فسفر التكوين ينص على أن أهل مدين ("مديان" في عبرية التوراة) عرب من العرب. تستخلص هذا من رواية سفر التكوين لقصة يوسف حين أئتمر به إخوته فباعوه "للإسماعيليين بعشرين من الفضة. فأتوا به إلى مصر" (تكوين 37/28)، فتفهم من هذا أن الإسماعيليين هم الذين أتوا بيوسف إلى مصر. ولكنك تفاجأ في نهاية هذا الإصحاح السابع والثلاثين من سفر التكوين بأن الذين أتوا بيوسف إلى مصر وباعوه هناك "مديانيم"، أي رجال من أهل مدين: "وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط" (تكوين 37/36). وهو تناقض لا سبيل إلى حله إلا بأن تتعلل لسفر التكوين بأنه لا يفرق بين الإسماعيليين والمديانيين: كلا الفريقين عنده عرب من العرب.

(لم يشع إطلاق الإسماعيليين عند اليهود على العرب عامة إلا بعد موسى عليه السلام بقرون، وما كانوا ليسمونهم كذلك على عصر يعقوب ابن أخي إسماعيل والإسماعيليين آنذاك بنو عمومتهم الأقربون. وهذا يدلك بالنقد اللغوي وحده على أن سفر التكوين – أول أسفار التوراة-كتب بعد موسى بقرون. ومن دلائل هذا أيضا استخدام سفر التكوين عبارة "يهواه إلوهيم" اسما لله عزوجل. كانت "إل"و "إلوهيم" اسم الله على عصر إبراهيم وما تلاه، ولم تعرف "يهواه" في العبرية إلا منذ موسى. أراد الكاتب الجمع بين القديم والحديث تدليلا على قدم أخبار سفر التكوين. ولكنها أعضلت على المترجم العربي فقال "الرب الإله"، وليس بجيد لأن "يهواه" يعني الله فحسب، ولكنه اضطر إلى ذلك كراهة أن يقول "الله الإله". والأجود عندي أن يترجم العبارة إلى "الله " الجامعة لكل أوصاف الألوهية، وفيها الغناء.)

تخلص من هذا إلى أن "أهل مدين" عند اليهود عرب من العرب، كانوا على طريق القوافل من خليج العقبة في شمال غربي شيه الجزيرة إلى مصر، عبر سيناء، وتلك بالفعل كانت مساكنهم في جغرافية التوراة (راجع الخرائط الملونة، الكتاب المقدس، طبعة العيد المئوي (1883-1983)، دار الكتاب المقدس بمصر).

وإذا كان أهل مدين عربا من العرب، فأخوهم شعيب كذلك، لا معنى للقول بخلافه، فالرسول والمرسل إليهم واحد كما مر بك. وليس معنى هذا أن مدين وشعيبا كانوا بالضرورة يتحدثون بتلك العربية التي نزل بها القرآن، وإنما المعنى أنهم كانوا يتحدثون بتلك اللغة العربية في مرحلة ما من مراحل تطورها إلى العربية التي نزل بها القرآن بعد نحو ألفي سنة من مبعث شعيب عليه السلام رسولا إلى أهل مدين.

*******

ولأهل مدين في القرآن اسم آخر، هو"أصحاب الأيكة". قال عزوجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (85) سورة الأعراف، وقال أيضا: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (178:176) سورة الشعراء، فتفهم أن مدين وأصحاب الأيكة واحد، لا لوحدة الرسول فحسب ولكن لأن شعيبا يأخذ على هؤلاء ما يأخذ على أولئك: يأخذ عليهم خسرانهم الكيل والميزان، وبخسهم الناس أشياءهم وعثوهم في الأرض مفسدين.
وقد ظن بعض المفسرين أن "مدين" قوم غير "أصحاب الأيكة"، بعث شعيب إلى الثانية بعد ما فرغ من الأولي. ظنوا هذا لأن القرآن فيما رأوا فرق بين عذاب أصحاب مدين، الذين أهلكوا بالصيحة والرجفة: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (94) سورة هود، {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (91) سورة الأعراف، وبين عذاب أصحاب الأيكة الذين كانوا شعيبا، {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (189) سورة الشعراء، والظلة غير الصيحة والرجفة (راجع ما رواه القرطبي في تفسيره للآيات 176-189 من سورة الشعراء). وليس بين يديك حديث يحسم الأمر، ولكنها أقوال الرواة: رووا أن الظلة سحابة احتموا بها من الحر الشديد فوجدوا لها بردا ونسيما، وما اجتمعوا تحتها حتى انقلبت عليهم نارا أحرقتهم، أو أنهم احتموا بأيكتهم فأضرمها الله عليهم، كالمحتمي من الرمضاء بالنار. وليس هذا كله بلازم، فالصيحة ايضا غير الرجفة، فبأيهما كان مهلك أهل مدين؟

الصواب أن يقال إن الصيحة هي صيحة جبريل عليه السلام، إيذان بإيقاع العذاب، وأن الرجفة هي أثر الصيحة، وتقول أيضا وما يمنع أن يجتمع على أهل مدين عذاب الرجفة وعذاب الظلة: ركضوا إلى البرية كما يركض الفار من الزلزال حين أحسوا الرجفة، يحتمون بأيكتهم، فأضرمها الله عليهم نارا إذ لا عاصم من أمر الله إذا جاء. وتقول أخيرا وما يمنع في اللغة أن تكون "الظلة"، هي فحسب غاشية العذاب الذي حل بهم ("أظله" بمعنى غشيه ولزمه) فأظلهم، لا ملجأ لهم منه؟ نقول هذا ولا نخوض في غيب الله، فالله عزوجل بغيبة أعلم.

********

أما الذي ألجأ مفسري القرآن إلى القول بأن شعيبا أخا مدين هو نفسه "الشيخ الكبير" الذي حل عليه موسى في مدين فزوجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج أو عشرا (راجع الآيات 22- 28 من سورة القصص)، أي كاهن مدين في سفر الخروج، "يثرو" أو "حُباب" أو "رعوئيل" (وربما "دعوئيل" أيضا على ما مر بك)، فلأن شعيبا ما كان ليوجد إلا في الفترة ما بين لوط إلى موسى بنص القرآن وما كان ليوجد إلا في مدين هذه التي لجأ إليها موسى، وما كان يثرو هذا ليكون هو نفسه شعيبا إلا إذا كان مبعثه قد سبق نزول موسى ضيفا عليه، أي قبل مبعث موسى. تجد هذا الترتيب بيناً في قوله عزوجل: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (44:42) سورة الحـج. يثرو إذن - إن كان هو نفسه شعيبا - استضاف موسى وقد فرق الله بينه وبين الذين ظلموا من قومه بعد مهلكهم: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (93:92) سورة الأعراف. ربما قلت ولماذا لا يكون شعيب قبل موسى بقرنين أو ثلاثة، والمسافة بين لوط وموسي أربعة قرون، وقد نزل موسى في ضيافة رجل صالح من بقية الناجين مع شعيب، فما كان لموسي عليه السلام الذي صنعه الله على عينه ليصهر إلى رجل من عبدة الأوثان في مدين؟ لا بأس بهذا بالطبع، ولا بأس أيضا بعكسه الذي قاله جمهور مفسري القرآن، والذي نرجحه نحن أيضا، وهو أن شعيبا كان هو نفسه صهر موسى عليهما السلام، لأن سفر الخروج يحدثك عن رجل ذي منصب في قومه، "كاهن مدين"، والكاهن والنبي واحد في لغة التوراة حين تتحدث عن أنبياء من خارج بني إبراهيم كما مر بك، دليلك في هذا من سفر الخروج نفسه أن الشهرة التي شهر بها حمو موسى في التوراة توحي بطبيعة هذا المنصب: راعي الله (رعوئيل) وربما داعي الله (دعوئيل)، وأيضا "يثرو" نفسها ومعناها الثرى دو الثروة والكثرة والنماء، المشتقة من الجذر العبري "يثر" وهو مقلوب الجذر العربي ثرا/يثرو، وثري/يثرى وكان شعيب ذا غنى، بعث في أحساب قومه، كما تجد في القرآن على لسان من كذبوه: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} (91) سورة هود، خشوا رهط شعيب وإن لم يكونوا على دينه لمكانتهم، كما وقع لمحمد صلي الله عليه وسلم في قومه. لقي موسى إذن شعيباً وقد تمادت السن بشعيب في بقية من قومه: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص. ربما قلت فما بال أولئك "الرعاء" من قوم شعيب والمفروض على هذا القول أنهم سلالة من الذين آمنوا معه، وقد استهانوا بابنتيه فلا تسقيان {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء} (23) سورة القصص ؟ لا عليك. هذا فهم متعجل لمنطوق تلك الآية: ما كان لنبي أن يسخر قومه في خدمته، وما كان ليقوى وهو شيخ كبير على سقيا غنمه، فأرسل ابنتيه بغنيماته، وما كان لابنتيه أن تزاحما الرعاء حياءً، وإنما يسقي الرجال أولا ثم تسقي النساء، فوقفتا تذودان غنيماتهما عن الماء حتى يصدر الرعاء فتسقيا، وجاء موسى رجلا يسقى مع الرجال، فأراحهما من عناء الانتظار. وربما استظهرت من القرآن تفسيراً لمعني شهرتي حمي موسى، رعوئيل ودعوئيل، أي "راعي الله"، "داعي الله"، الأولى في قوله عزوجل: { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص، والثانية في قوله عزوجل: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (25) سورة القصص، دون أن يتقدمه ذكر لاسم حمي موسى. وربما لمست في هذه الأخيرة أن حما موسى كان ذا مال يجزي به صنيع من أحسن إلى ابنتيه، وكان كريماً عزيز النفس لا يقبل خدمة بغير أجر.

أما لماذا لم تذكر التوراة اسم "شعيب" في جملة أسماء حمي موسى وهي أربعة كما مربك، فلأن العبرية ليس فيها الجذر"شعب" العربي،ولا تفقه له معني، وربما خشي الكاتب اشتباهه بــ "شئيب" العبري ومعناها "ناضح البئر".وربما أيضا لأن شعيبا شهر في مهاجره بشهرته الدالة على منصبه "راعي الله" (رعوئيل) ولم يشهر باسمه في قومه. وأما لماذا لم ينص القرآن على أن شعيباً هو حمو موسى، فهذا على الراجح عندي لأن القرآن لا يؤصل الأنساب بين الأنبياء المبعوثين كل إلى قومه، كما فعل في موسى وهارون المبعوثين كليهما إلى فرعون وملئه، فقد ذكر لوطاً ولم ينص على أنه ابن أخي إبراهيم كما تنص التوراة، وما ذاك إلا لأن رسالة لوطٍ كانت بمعزل عن رسالة إبراهيم، كما كانت رسالة شعيب غير رسالة موسى وهارون. نقول هذا ولا نقطع فيه بيقين، فليس من مقاصد هذا الكتاب تأصيل الأنساب كما مربك. وليس في القرآن ما يقطع بهذا أو ذاك، والله عزوجل بغيبه سبحانه هو الأعلم.

*********

أما "شعيب"- وقد جاء الاسم على أصله في القرآن عربيا لا يحتاج إلى تفسير لخلو التوراة من النص عليه كما مر بك من منهجنا في هذا الكتاب - فهي إما تصغير "أشعب" أي الواسع ما بين المنكبين، وإما تصغير "شعب" ومن معانيها في معجمك العربي: مجري الماء تحت الأرض، وليس هذا المعني الأخير بعيدا عن معاني "شئيب" العبري، أي "ناضح البئر" . "شعيب" إذن عربية، تخرج عن مقاصد هذا الكتاب.

وليست "مدين" كذلك لثبوت العلمية لها في التوراة بلفظ " مديان"، فجاءت في القرآن "مدين" على التعريب.

********

أما علماء التوراة فهم ينسبون "مديان" إلى واحد من أبناء إبراهيم (من زوجته - أو جاريته – قطوره، فلا زوجات عند أصحاب التوراة لإبراهيم إلا سارة جدة يعقوب صاحب الوعد وغيرها جوار وسرار)، كدأب التوراة في إقطاع بني إبراهيم أرض فلسطين وسكانها بصكوك نسب صحيح أو مفتعل، وكأنما كانت فلسطين أرضا فضاء حين وفد إليها إبراهيم وبنوه، فعمروها بقبائل من نسل إبراهيم، كما قالوا أن عيسو أخا يعقوب شهر باسم "إدوم" (أي الأحمر)، واستنبطوا من هذا أن عيسو هو "أبو الأدوميين" جميعا، صاحب الأرض وسكانها. وغير هذا كثير في سفر التكوين، فلا تلتفت إليه. الصحيح أن الأدوميين والمديانيين وغيرهم من قبائل فلسطين وما حولهما أسبق وجودا على الأرض من إبراهيم وبنيه. دليلك في هذا من أسفار التوراة ذاتها، بل ومن سفر التكوين بالذات: "واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف واصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر" (تكوين 37/82)، "أما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط" (تكوين 73/36). إقرأ هذا وتساءل معي: كيفي تهيأ لمديان بن إبراهيم هذا - وهو عم يعقوب أبي يوسف - أن يلد وحده، في جبل واحد - أو إن تشددت معي - في جيلين اثنين، قوافل مديانية من التجار تغدو وتروح ما بين مصر وفلسطين؟ لن أقول لك كيف هان عليهم يوسف، وإسحاق عمهم جده، فقد هان يوسف على إخوته، ولا أستطرد إلى الخلط بين الإسماعيليين والمديانيين، فقد سبق لنا القول فيه.

نحن لا نفسر "مديان" البلدة والقبيلة تأصيلا على اسم "مديان" بن إبراهيم هذا الذي يشتقونه من العبري "دان/يدين" بمعنى خاصمه وقاضاه، فهو المخاصم الجدل، فلا صلة بين مديان بن إبراهيم هذا وبين مديان البلدة والقبيلة كما رأيت.

وإنما نحن نفسره بالعبرية - الآرامية "دان/يدون"، ومعناه في عبرية التوراة وإلي الآن في العبرية المعاصرة: حل ونزل وثوى وأقام وسكن (انظر معنى "دان/يدون" العبري المعجم العبري" هملون هحداش لتناخ" ، وانظر أيضا في المعجم الثنائي " عبري- فرنسي"،وهو , He-Larousse breu-Francais، وفيه أن دان/يدون العبري يكافئ Habiter الفرنسي. ليس هو دان/يدين بمعنى juger الفرنسي ومشتقاتها).

من هذه في العبرية - الآرامية "مدينا" (المدينة في العربية)، أي البلدة التي يثوى بها ويقام. وهي على وزن الفاعل المؤنث (عبريا وآراميا) من أدين/يدين، المشتقة من دان/ يدون العبري – الآرامي، بمعنى التي تثوي بها وتثويك.
ومن هذه أيضا- الذي يعنينا هنا- جاءت "مديان" العبرية - الآرامية، على "مفعال"، واسم المكان هو"المثوى" و "المقام".

وهذا هو نفسه التفسير القرآني لمعني "مدين" في القرآن تجده في قوله عزوجل: {وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (45) سورة القصص، على الجناس المعنوي، "أي ما كنت مادناً في مدين" ، و"مدن" العربي يعني أتي المدينة.

فصل القرآن في اشتقاق "مديان"، فأخذها من دان/يدون العبري - الآرامي، مخالفا بذلك مفسري عبرية التوراة الذين يشتقونها من "دان/يدين" على معنى الخصومة والمداينة والشكس والجدل، رغبة في نحلها "مديان" بن إبراهيم من جاريته قطورة، على ما مر بك، وهو بعيد، فأخطأوا و أصاب القرآن.

سبحان العليم الخبير.


... يتبع

الجمعة، ١٨ مايو ٢٠٠٧

الآباء الأولين

السلام عليكم

اليوم نتحدث عن الآباء الأولين (آدم – إدريس – نوح) على اعتبار أن إدريس أسبق من نوح في ترتيب الأنبياء وهذا ما يوضحه مؤلف كتاب "من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن" والله عز وجل أعلى وأعلم....

مع تحياتي


من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

الآباء الأوليــن
****

(1)
آد م

من دلائل قدم العربية على العبرية، أن اسم "آدم" أبي البشر (وينطق في العبرية "أدام" بألف ممدودة بعد الدال)، ليس له جذر في العبرية يشتق منه إلا الجذر العبري "أدم" أي "إحمر" بمعني كان أحمر اللون. و"أدوم" في العبرية يعني "الأحمر"، ومنه كما يقول علماء العبرية لفظ "دام" أي "الدم"، فلا تدري هل اشتق "آدم" من الدم أم اشتق "الدم" من آدم. وفي العبرية أيضا "أدما" بمعني الأرض، أي التربة، ومنه ما جاء في سفر التكوين: "ويصر يهوا إلوهيم إت – ها أدام عفر من ها أدما وبيح بأباو نشمت حاييم" وهي في الترجمة العربية" وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة"(تكوين 2/7). والأرض هنا يعني التربة، أي قشرة الأرض، يعني أديمها الظاهر منها، لا الأرض نفسها وهي في العبرية "هاآرص". ولا سبيل لك إلي اشتقاق "أدما" هذه – إن أردتها عبرية- إلا من الجذر العبري "أدم"، أي "إحمر"، يعني كان أحمر اللون، فهي "الحمراء"، وكأن "آدم" يعني "الأحمر" المجبول من "الحمراء". ولو قابلت هذا بمكافئه العربي لقلت إن "آدم" يعني "الأغبر" المجبول من "الغبراء"(وهو الاسم الذي يطلقه العرب على أديم الأرض)، وكأن الحمرة هي اللون الغالب على تربة الأرض عند العبرانيين فسميت به. ولا يصح هذا بالطبع، وإنما الصحيح هو أن العبرية لم تشتق "أدما" من الجذر العبري "أدم"، وإنما نقلتها نقلا عن العربية ("الأدمة")، اسما جامدا لا اشتقاق له عندها.

أما "أدم" العربي، فهو جذر غزير المعاني، ليس فيه من الحمرة شئ. من معانيه الامتزاج والخلط والإيلاف: من ذلك "الائتدام" أي المزواجة بين أنواع الطعام كأكل الأرز باللحم، والخبز بالخضر. و"الإدام" هو المضاف من الطعام إلي بعضه ليستمرأ. و"آدم" بين الزوجين يعني آلف بينهما وأصلح. و"أدم الصانع الجلد" يعني أصلحه بنزع الزائد من "أدمته"، و"الأدمة" هي باطن الجلد تحت البشرة اللصيق باللحم "المخالط" له. و"أدمة الأرض" ما يلي وجهها، أي غلافها، ومنه"الأديم" بمعني الجلد، وأديم الأرض يعني "جلدها"، وهو "التربة". و"أدم يأدم"، وأيضا "أدم يأدم" فهو "أدم" (نسبة إلي "الأدمة" أي "التربة") يعني من كانت بشرته في لونها، أي الشديد السمرة. و"آدمته الشمس" يعني لوحت لونه، أي صيرته إلي السمرة.
وهكذا تري أن "أدما" العبرية بمعني الأرض والتربة، ليست بعبرية، وإنما هي دخيلة على تلك اللغة، استعارتها رأسا من العربية.

وتستطيع أن ترتب على هذا مباشرة أن العبرية ورثت أيضا اسم "آدم" عن هذه العربية نفسها، أعني العربية الأولى - عربية آدم - ذلك الاسم الذي سماه الله به في الجنة، وهبط به إلي الأرض، فصار له علما بين زوجه وبنيه وحفدته وذراريه. دليلك في هذا أن سفر التكوين ينص تنصيصا على أنه لا يشتق "آدم" من لون بشرته عبريا، أي الحمرة، ولكنه يشتقه من الأرض التي أخذ منها وإليها يعود، أي من "الأدمة" (وهي عربية لا عبرية كما مر بك):"عاد شوبخا إل-ها أدما، كي ممنا لقحتا، كي – عفر أت، وإل – عفر تشوب" أي "حتي تعود إلي الأرض التي أخذت منها لأنك تراب وإلي التراب تعود" (تكوين 3/19).
آدم من الأدمة في التوراة، ليس من الحمرة، وهو كذلك في العربية، كما سترى، بل هو أولى.

*****

أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 31 من سورة البفرة) فهموه على أنه مشتق من أدمة الأرض وأديمها، وهو وجهها، فسمي بما خلق منه. وقال بعضهم إنه مشتق من الأدمة (بضم الهمزة) وهي السمرة.
وزعم بعضهم أن الأدمة هي البياض، وأن آدم كان أبيض. وليس هذا وذاك بشئ، لأن الأدمة نفسها مشتقة من الأديم، أي من لون الأدمة، وهي إلي السمرة أقرب، ثم إنه لا مدخل للون آدم في تسميته: ليكن آدم أسمر أو أبيض أو ما شئت من أبشار البشر إن صح في لونه عن الصادق المصدوق حديث، ولكنه قبل كل شئ منسوب إلي هذه الأدمة التي جبل منها أيا كان لونها وأيا كان لونه.
وقد عقب القرطبي رحمه الله على أقوال المفسرين في هذا بقوله: والصحيح أنه مشتق من أديم الأرض.
وهذا هو"التفسير القرآني" لمعني"آدم"، كما سترى.

******

ورد آدم في القرآن منفردا - أي ليس مضافا إليه بنوه كما في "بني آدم"، "إبني آدم" - 18 مرة، منها أربع على النداء من الله عزوجل في الملأ الأعلي، ومنها واحدة خاطبه بها إبليس بغريه بالأكل من الشجرة، والباقي في الحديث عن قصة آدم في الملأ الأعلي، إلا اثنين: {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (33) سورة آل عمران، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ } (58) سورة مريم.
ليس في هذا كله من تفسير معني آدم شئ إلا قوله عزوجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (59) سورة آل عمران.
ولكنك تجد هذا المعني فصيحا بينا في مثل قوله عزوجل: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ} (71) سورة ص. في هذه - وغيرها من مثلها في القرآن كثير- الكفاية كل الكفاية في تفسير معني"آدم": أما الطين فقد علمته، وأما "البشر" فمن البشرة، وهي وجه "الأديم"، و"بشر" الأديم يعني قشره.
"آدم" عربية كما تري، تخرج عن مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب، ولكن القرآن فصل في وجه اشتقاقها: إنها من "الأدمة و"الأديم"، لا من "البياض" و"السمرة".

ويخرج عن مقاصد هذا الكتاب أيضا تفسير اسم "حواء"، زوج"آدم" في الجنة، لأنها لم تذكر بالاسم في القرآن.
ولكنا وعدناك فيما سبق بتفسير هذا الاسم مع "آدم". وقلنا لك أيضا فيما سبق إن القرآن - حين لا ينص على اسم علم - يلم بمعناه أحيانا في ثنايا الآيات، فيصوره لك حتي لتكاد تسميه به، وإذا هو نفسه اسم العلم المعني في التوراة، و "حواء" من هذا كما ستري.

*****

يشتق علماء العبرية اسم "حواء" من الجذر العبري"حوا"، ويقولون إنه من "الحياة"، أي أن "حواء" يعني"الحياة". وهم يفسرون الجذر العبري"حوا" على هذا المعني قسرا، رغم أن لفظ الحياة في العبرية هو "حاييم"، المشتق من جذر عبري آخر هو "حيا" بالياء، المطابق لنظيره العربي بنفس المعني. ولكنهم يقولون لك إن "حوا"(وهو اسم "حواء" في العبرية غير مهموز) يعني"الحياة" في اسم"حواء" فقط، لا يجوز استخدامه بهذا المعني في غيرها، بل تستخدم "حاييم" على أصلها. وقد"اضطر" علماء العبرية إلي هذا اتباعا لسفر التكوين الذي ينص تنصيصا على أن "حواء" من الحياة. وقد مر بك هذا في موضعه. ولا تستطيع أن تقول إن كاتب سفر التكوين تورط في هذا التفسير مدفوعا بتغيير طرأ في زمنه على معني الجذر "حواء"... لو صح هذا لما جاز لعلماء العبرية حظر استخدام "حوا" بمعني الحياة في غير اسم "حواء".
إنما تستطيع أن تقول إن كاتب سفر التكوين تورط في هذا فألزم به من جاءوا بعده، دليلك في هذا من العبرية المعاصرة التي تستخدم الفعل "حوا" بمعني عاش، أي عاش حدثاً ما أو تجربة ما، بمعنى "شهد"، ولكنها لا تستخدمه قط بمعني "حيا". أي إن "عاش" و"حيا" ليسا سواء.
عاش بمعني شهد يسهل اشتقاقه من أصل معنى الجذر العبري"حوا"، وهو يطابق "حوي" العربي. وقد تابع مفسرو القرآن أهل التوراة في تفسيرهم اسم "حواء" بالحياة، لا تجد لهم في تفسيره قولا يغايره (راجع تفسير القرطبي للآية 35 من سورة البقرة).

****

أما الفعل "حوى" في العربية فأصل معناه التجمع والاستدارة والتقبض، ومنه "الحية" لأنها "تتحوى" أي تستدير على نفسها، ومنه أيضا "حواه" بمعني استولي عليه وملكه، وكأنه "استدار عليه"، ومنه كذلك "الحواء" أي المكان الذي يحوي الشئ، ويجمع على "أحوية"، و"الأحوية" يعني البيوت التي تحوي الناس، والباقي الآن منها في معناه البيوت من الوبر مجتمعة على ماء. والحواءة من الرجال يعني اللازم بيته.

وقد رجع "علماء العبرية" إلي هذه المعاني حين أرادوا تأصيل معني الجذر العبري"حوا"- بعيدا عن اسم "حواء" بالطبع الذي لا يملكون له تعديلا- عندما تصدوا للفظ العبري "حووت"(علي جمع التأنيث العبري من "حوا" بمعني " القرية" - الذي لا يستقيم معناه بالإصرار على أن الفعل "حوا" العبري يعني "حيا")، فتبينوا أن "حووت" العبري يعني بالضبط "الأحوية" العربي وانتهوا إلي أن "حوا" العبري يأخذ من "حوى" العربي معني التجمع والاجتماع.
وقال آخرون من علماء العبرية هؤلاء إنه لا داعي لأخذ "حوا" العبري من "حوى" العربي، لأنه إذا كان "حوا" العبري يعني "حيا" كما يريد سفر التكوين، فإن معني "الحياة" Living يفيد معنى "السكنى" و" الإقامة" أيضا. ومهما قلت في تأثر هذا القائل بلسانه الأوروبي، فهو في أعماقه يريد أن يوفق بين ما قاله سفر التكوين في معنى "حواء" بأنها من "الحياة"، وبين تلك "الأحوية" (حووت العبرية)، أي تلك "القرى" الماثلة أمامه، ليس فيها من اشتقاقات "الحياة" شئ إلا إن أخذت"الحياة" بمعنى "المعيشة"، وهو بعيد عما أراده سفر التكوين بقوله إن حواء هي واهبة الحياة(أم كل حي).

أيما صح هذا أوذاك، فأنت لابد منته إلي أن"الفعل حوا" العبري أصل معناه من التجمع والانضمام والسكني والتوطن والإقامة، لا شأن لك بما آل إليه معناه عند كاتب سفر التكوين، فأم البشر"حواء" ليست فقط أقدم من مولد هذا الكتاب ولكنها أقدم بقرون لا يعلم عدتها إلا الله من مولد تلك اللغة العبرية نفسها.
والذي لا شك عندي فيه أن "حواء" عرفت بهذا الاسم في الملأ الأعلي، وإنه قد تكلم به معها آدم الذي علم الأسماء كلها، وأنها هبطت بهذا الاسم إلي الأرض مع آدم، فصار لها علما في أجيال بنيها، يتوارثونه جيلا بعد جيل، حتى آل إلي ما صار إليه في سفر التكوين، لا على النحت من العبرية ذاتها، وإنما على النقل من "العربية الأولى"، عربية آدم وحواء، شأنه شأن اسم "آدم" سواء بسواء.

والذي لاشك عندي فيه أيضا - ولا خلاف فيه مع سفر التكوين - أن دلالة الاسم على مسماه قد روعيت في تسمية "حواء" كما روعيت من قبل في تسمية "آدم"... أما آدم فقد سمي بما خلق منه وأما حواء فقد سميت بما خلقت له.
وقد أصاب سفر التكوين في آدم، ولم يصب في حواء، التي تعلل في تسميتها بمعني الحياة (لأنها أم كل حي):"ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي" (تكوين3/20)، أي أنها سميت بما خلقت له وهو "الإنجاب"، أي ولادة الأحياء.
ولم يصب الكاتب في حواء من وجهين: الأول لغوي بحث، لأنه لا يصح اشتقاق الحياة من الجذر العبري "حوا" إلا بافتعال شديد كما مر بك. والثاني بيولوجي بحت: لا يصح أن يقال إن المرآة هي "واهبة الحياة"، فبالذكر والأنثى معا يكون النسل، لا نسل إلا باجتماعهما معا. وفي الكون كائنات "وحيدة الجنس" تتناسل لا حاجة بها إلي ذكر أو أنثي، ولو شاء الله لآدم أن يكون من هذه الكائنات لفعل. وسفر التكوين نفسه ينص على سبب إيجاد "حواء" أنثي... "وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فأصنع له معيناً نظيره" (تكوين 2/18)، أي أن يكون لآدم زوج. بل وراء جعل النسل من ذكر وأنثي هدف أجل منه، وهو إلزام شطري الخلق بالعيش في جماعة من نوعها. تجد هذا في الأحياء كافة حتى الحشرة. وفي إطالة أمد طفولة النوع الإنساني - وهي في الإنسان من دون كافة الأنواع أطولها أمدا- إلزام الأبوين بالإيلاف والتضام، و"التحوي" عمرهما كله لرعاية هذا النسل وإعالته وتنشئته، فتكون "الأسرة". وفي المخالفة بين نسل الأسرة والأسرة - عددا ونوعا - إلزام الأسر بالتزاوج فيما بينها، فتنشأ بالنسب والصهر شعوب وقبائل، يتعارفون على أصول وقيم يتبارون في السبق إليها. ولا يتحقق هذا إلا بالخلق من ذكر وأنثي. وتجد هذا كله في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات.
و"جعلناكم" في هذه الآية على التقرير والتفسير معا، أي خلقناكم من ذكر وأنثي لنجعلكم شعوبا وقبائل.
وقد شاءت حكمته عز وجل أن يجعل المرآة للرجل "سكنا"، مستقراً له ومقاما. إنها الزوج والإلف والسكن. وهذا هو ما خلقت له "حواء" فسميت به، لا "ولادة الأحياء" كما تجد في سفر التكوين، فما كان لآدم وحواء وهما في الجنة التفكير في الإنجاب والتناسل.

ليست "ولادة الأحياء" هي العلة من التسمية وإنما العلة هي أنها "الحواء" لآدم، السكينة والسكني.
والقرآن لا ينص على اسم "حواء"، فلا يسميها ما سماها به آدم، إن صح ما قاله سفر التكوين من أن آدم هو الذي سمى، وإنما القرآن يسميها "زوج آدم"، أي إلفه: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (35) سورة البقرة.

ولكن القرآن يفسر اسم "حواء" بما فسرناه به نحن فيصوره أبلغ تصوير في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (189) سورة الأعراف، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (21) سورة الروم، {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} (98) سورة الأنعام.


(2)
إدريس

ليس في التوراة والإنجيل اسم "إدريس"، وإنما ذكر إدريس عليه السلام في القرآن وحده في زمرة من ذكرهم القرآن من النبيين والصديقين.

وقد وردت "إدريس" في القرآن مرتين فحسب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57:56) سورة مريم، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ } (85) سورة الأنبياء.
وقد اختلف مفسرو القرآن في "إدريس" (راجع تفسير القرطبي للآية 56 من سورة مريم)، أعجمي اسمه أم عربي، سبق نوحا أم كان من ذرية نوح. والمشهور عند الرواة أن اسمه في العبرية "أخنوخ"، وأنه أول نبي من ذرية آدم سابق على نوح. ومنهم من أصر على أن "إدريس" لفظ أعجمي لأنه ممنوع من الصرف في القرآن لغير علة إلا العجمة، دون أن يذكروا من أي لغة أعجمية هو، كدأبهم حين يعضل الاشتقاق عليهم. والكثرة على أنه من "درس" العربية فهو "الدارس" من المدارسة والتدارس على المبالغة، الكثير العلم. وليس في "إدريس"حديث صحيح يفصل في المسألة، إلا ماجاء في صحيح مسلم من حديث يفصل في المسألة، إلا ما جاء في صحيح مسلم من حديث الإسراء قوله صلي الله عليه وسلم: "لما عرج بي أتيت على إدريس في السماء الرابعة"، تفسيرا لقوله عزوجل في شأن إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57) سورة مريم، وهذا لا يفصل في الترتيب التاريخي لإدريس عليه السلام بين الأنبياء صلوات الله عليهم.

راجع أيضا قوله عزوجل في سورة مريم يصف الأنبياء المذكورين في السورة وآخرهم إدريس: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} (58) سورة مريم. ولئن كان الخلق كلهم من ذرية آدم، فالتفصيل في الآية يفيد أن من النبيين في السورة من ليس من ذرية إبراهيم ويعقوب (إسرائيل)، وليس من المحمولين في الفلك مع نوح، لا تصح نسبتهم إليه لأنهم قبله، فهم من ذرية آدم. والأنبياء المذكورون في سورة مريم كلها هم بترتيب ورودهم فيها: زكريا- يحيي- عيسي- إبراهيم – إسحاق- يعقوب- موسي- هارون- إسماعيل- إدريس، ليس فيهم من تشك في نسبته إلي إبراهيم، وإبراهيم من ذرية المحمولين مع نوح، إلا إدريس، فهو المعني إذن، على الراجح عندي، بهذا الإفراد والتنصيص على النبيين من ذرية آدم.

علي أن منشأ القول بأن إدريس في القرآن هو "أخنوخ" في التوراة يرد بالقطع إلي يهود من أهل الكتاب عرفوا أن "إدريس" في العربية تكافئ "أخنوخ" في العبرية، وربطوا بين ما جاء في القرآن عن إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57) سورة مريم، وبين ما جاء في سفر التكوين في شأن أخنوخ، أبي متوشالح، أبي لامك، أبي نوح:"وعاش أخنوخ خمسا وستين سنة وولد متوشالح. وسار أخنوخ مع الله بعد ما ولد متوشالح ثلاث مائة سنة وولد بنين وبنات. فكانت كل أيام أخنوخ ثلاث مائة وخمسا وستين سنة. وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" (تكوين 5/21-24). اللفظ العبري "أخنوخ" يفيد بذاته بالدارس الإدريس، و"سيرته مع الله "تفيد" الصديقية" التي في قوله عزوجل: { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} (56) سورة مريم، وعبارة "ولم يوجد لأن الله أخذه" تجد صداها في قوله تبارك وتعالي: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57) سورة مريم. ولم يقع هذا في القرآن في شأن أي نبي على ارتفاع مكانتهم إلا في إدريس، وهذا يدلك على أنه ارتفاع على الموضع حقيقة لا مجازاً.
لهذا كله فنحن مع القائلين بأن أخنوخ في التوراة هو نبي الله إدريس عليه السلام. والله عز وجل بغيبه أعلم.

********

أما المستشرقون المنكرون الوحي على القرآن فلم يقولوا بهذا، ولم يلتفتوا إلي وحدة المعني في "إدريس" و"أخنوخ" وإنما ذهبوا يلتمسون لاسم"إدريس" نظيرا أعجمياً في أقاصيص أهل الكتاب، فلما أعياهم البحث رأي بعضهم أن أقرب الأسماء إليه "أندرياس" اليوناني، وهذا عبث لا يليق بنا الالتفات إليه، ناهيك عن مناقشته والإفاضة فيه.

********

أما أن "أخنوخ" – لغة – هي "إدريس" فقد علمت أن "الإدريس" هو الدارس الفاه الحاذق. وأما "أخنوخ" فأصلها العبري "حنوك"، التي تنطق كافها خاء، على ما مر بك من قواعد النطق في العبرية التي تنطق الكاف خاءً إذا تحرك أو اعتل ما قبلها، فهي عندهم"حنوخ" عربها العرب إلي "أخنوخ". وأما معنى "حنوك" العبرية هذه فهي على المفعولية من الفعل العبري "حنك" على معنى "حنكة" العربي، أي فقهه وثقفه وعلمه، فهو المحنك المحنوك.

وقد جاءت "إدريس" في القرآن على الترجمة لاغير، تحاشيا لثقل "أخنوخ" التي شهر بها هذا الاسم العلم قبل القرآن.
وأما لماذا كانت "إدريس" ممنوعة من الصرف في القرآن، فهذا من إعجاز القرآن الذي لم يفطن إليه الزمخشري وغيره (راجع تفسير القرطبي للآيتين 56و57 من سورة مريم) الذين لم يستطيعوا الجمع بين عربية هذا الاسم في لفظه، وبين عجمته في أصله: القرآن - يمنع "إدريس" من الصرف - يدلك على أصله الأعجمي، وكأنه يوصيك بأن تتلمسه في "أخنوخ" لا في نبي مجهول من بني اسماعيل عليه السلام.


(3)
نوح

لقد شهر نوح عليه السلام بأنه آدم الثاني، لأن الخلق كلهم بعد الطوفات ينسبون إليه: قال عزوجل في نوح {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} (77) سورة الصافات، وهذا من مجاز المجمل، والصحيح أنهم ذريته وذرية من آمن معه وركب الفلك: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} (3) سورة الإسراء.

والذي بين آدم ونوح عليهما السلام قرون لا يعلم عدتها إلا الله، والذي بين نوح وإبراهيم عليهما السلام كذلك. تستطيع بالحساب التقريبي أن تضع إبراهيم عليه السلام بين أعلام القرن الثامن عشر قبل الميلاد أو التاسع عشر لا تزيد: أنجنب إبراهيم وقد ناهز المائة عام ابنه الثاني إسحاق، وأنجب إسحاق بدوره ابنيه التوأمين "عيسو"، "يعقوب" وهو "إسرائيل" أبو يوسف الذي وطأ لبني إسرائيل في مصر فمكثوا بها كما تقول التوراة أربعمائة وثلاثين سنة (خروج 12/40)، وكان خروجهم على الراجح عندي - كما مر بك - أواخر عصر "رمسيس الثاني" الذي كان مهلكه حوالي 1225 ق م. تستطيع بالتقريب إذن (1225+430=1655) أن تضع يعقوب بين أعلام القرن السابع عشر قبل الميلاد وأن تضع جده إبراهيم عليهما السلام بين أعلام القرن التاسع عشر. ولكن ليس لديك من معالم التاريخ ما تستدل به على عصر نوح، إلا أن تستظهر من علم الآثار تاريخا تقريبيا لعصر الطوفان، وليس بين يديك من هذا شئ. ناهيك بأن تحدد تاريخا تقريبيا لمهبط آدم وحواء إلي هذه الأرض، فتقدر الفترة ما بين آدم ونوح، والحفريات تنبئك بالعثور على عظام بشرية في طبقات يرجع تاريخها إلي ما بين مائة ومائتي ألف عام.

ولكن سفر التكوين - كدأبه في النص على المحالات - يتورط فيحصر الفترة ما بين آدم إلى نوح في تسعة آباء، هي على النسب الصاعد: نوح- لامك – متوشالح- أخنوخ- يارد – مهللئيل – قينان – أنوش- شيث- آدم، ولا يكتفي بهذا بل يحدد لكك منهم تاريخ مولده وتاريخ وفاته، فتستخلص منه (راجع الإصحاح الخامس من سفر التكوين)، أن آدم توفي سنة 930 ب خ ( ب خ = بدء الخليفة)، وأن نوحا ولد سنة 1056 ب خ، وأن الطوفان - الذي حدث ونوح عمره ستمائة سنة - كان سنة 1656 ب خ. ولعلك تعلم أن التقويم اليهودي يبدأ ببدء الخليقة، وان بدء الخليقة هذا - القائم على حسابات سفر التكوين- يناهز عام 3761 قبل الميلاد، وهذا يعني أن المصريين على الأقل - الذين كان لهم وجود في مصر منذ حوالي 4200 قبل الميلاد كما يقول علماء الآثار والحضارات - ولدوا قبل بدء الخليقة لا قبل مهبط آدم فحسب. ويعني أيضا أن الطوفان الذي حدث على هذا التقدير عام 2105 قبل الميلاد، حدث بعد بناء بابل (2800 ق .م) بنحو سبعة قرون ويعني أيضا أن نوحا - الذي عاش ثلاثمائة وخمسين عاما بعد الطوفان - مات سنة 1755 ق م، أي أواسط القرن الثامن عشر قبل الميلاد، فكان من معاصري إبراهيم!

هذا كله يقطع الصلة ما بين سفر التكوين والعلم، وما بين سفر التكوين والوحي الصادق، فلا تلتفت إليه. ولكن هذا الذي تورط فيه سفر التكوين فألزم نفسه ما لا يلزمه، لم يسئ إلي أسفار التوراة فحسب، ولكنه نال من "جدية الوحي" بعامة، وزعزع هيبة الدين في صدور الذين نشئوا على أن التوراة والإنجيل معا "كتاب مقدس"، الذين لا يرون في غير التوراة والإنجيل وحياً منزلاً، فلم يبحثوا عن الحق في غيرهما ، والحق منهم قريب، في القرآن المصدق "المهيمن".

علي أن موسي عليه السلام- صاحب التوراة- لم يتورط فيما تورط فيه سفر التكوين، بل فوض العلم بالقرون الأولي إلي الخلاق العليم. جهل فرعون ما كان من شأن تلك القرون- والمصريون على عصره أوفر أهل زمانهم علماً وحضارة- فسأل موسي أن ينبئه بأنبائهم: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} (52:49) سورة طـه.

والقرآن يباعد ما بين نوح وإبراهيم: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} (38:37) سورة الفرقان.

والقرآن يباعد أيضا ما بين آدم ونوح. تستظهر هذا من قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} (24) سورة المؤمنون. قد مضت القرون إذن من بعد آدم إلي نوح حتى أنسوا ما نزل به آدم. ولو صح ما قاله سفر التكوين كما مر بك لكان ما بين وفاة آدم (930 ب خ) ومولد نوح (1056 ب خ) مائة وستة وعشرين عاما لا تزيد، ولكاد آدم نفسه يرد على هؤلاء المعاندين المكذبين، أو لرد عليهم "أنوش"، بن "شيث"، بن "آدم" الذي ما مات حتى ناهز نوح الرابعة والثمانين، (راجع هذه "الحسابات" على الإصحاح الخامس من سفر التكوين).

لا يعارض القرآن التوراة إلا ويصح القرآن. ولا يعارض القرآن علوم "العصر" إلا ويصح القرآن. ولا "يتفق" العلم مع القرآن إلا وقد سبق القرآن العلم ومهد الطريق.

********

"نوح" في القرآن هي تعريب "نوح" في التوراة، التي تنطق في العبرية لا مداً بالواو وإنما مدا بالضم بعده فتح (نو- وح)، ومن هنا كتابتها بالإنجليزية Noah. وهي في العبرية من الفعل العبري ناح/ينوح، مشتقة على المصدر أو اسم الفعل، فهي "نوح" (نُو- وح).

أما المعاني هذا الفعل في العبرية فهي: البقيا والتلبث - الدعة والسكون - الكف والتوقف - الراحة والاسترواح والتنعم. وهو في العبرية والآرامية سواء. علي أنك تستطيع أن ترد هذه المعاني جميعا إلي معني الفعل الرئيسي، وهو البقيا والتلبث. والمعني الرئيسي للفعل هو أقدم معانيه، أي أسبقها وجودا.

وهو نوح على عبرية التوراة - وهو قديم جد بعيد - يجعلك تؤثر أخذ معني اسمه من المعني الرئيسي لهذا الفعل "ناح/ ينوح" العبري- الآرامي، أعني تأخذه من البقيا والتلبث، غير ملتفت إلي عبارة في سفر التكوين يحاول بها الكاتب تفسير هذا الاسم بمعني العزاء والراحة: "ودعا اسمه نوحا. قائلا هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب "(تكوين 5/29). تأخذه من البقيا والتلبث، ولا تأخذه من العزاء والراحة، لا حبا في مخالفة كاتب سفر التكوين، وإنما تفعله انحيازا للتأصيل اللغوي العلمي لمعني هذا الجذر العبري - الآرامي "ناح"/ ينوح".

ففد مر بك أن ما كان في العربية أصلا بالخاء (المنقوطة) يرد في العبرية والآرامية فورا إلي الحاء(غير المنقوطة). وما كان في العربية أصلا بالحاء (غير المنقوطة)، يظل في العبرية والآرامية على أصله بالحاء. مثال ذلك "خلق"، العربي يصبح في العبرية والآرامية "حلق" بينما " جلح/يجلح" العربي يظل في العبرية – الآرامية بالحاء " جلح/ يجلح".

"ناح" العبري إذن هو إما "ناح" العربي نفسه، من "النواح"، كما ظن بعض مفسري القرآن، ولم يوفقوا فيه، فليس في "ناح" العبري من معاني "النواح" شئ كما مر بك، وإما هو"ناخ" العربي بخاء منقوطة، من الإناخة والتنوخ، أي التلبث والبقيا، وهو الصحيح، لأن هذا هو المعني الرئيسي للفعل العبري "ناح/ ينوح".

ليس مسموعا في العربية ناخ ينوخ، ولكنك تأخذه من أناخ/ ينيخ بنفس معناه: أناخ بالمكان ، أقام، وأناخ به البلاء، حل به ولزمه، ومنه أناخ الجمل يعني أبركه، والمناخ، محل الإقامة ، والنوخة مثله.

"نوح" إذن من النوخة والإناخة، فهو النائخ المتنوخ، أي اللابث لا يريم. صار له علماً لطول مكثه في قومه (ألف سنة إلا خمسين عاما كما في التوراة وفي القرآن) وطول ملاحاتهم له.

وهذا هو التفسير القرآني لمعني "نوح"، فسره بالمرادف في مثل قوله عزوجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (14) سورة العنكبوت، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ} (71) سورة يونس، {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} (77) سورة الصافات.

صحح القرآن معني"نوح" لمفسري القرآن الذين تكلموا فيه، وصححه أيضا لكاتب سفر التكوين كما مر بك. وسبحان العليم الخبير.

******

(4)
الجودي

الجودي هو اسم مرسي سفينة نوح في القرآن. وردت في القرآن مرة واحدة في قوله عزوجل: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (44) سورة هود.
ولم يتعرض مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 44 من سورة هود) لتفسير معنى "الجودي"، مكتفين بأنه اسم جبل في الموصل شمالي العراق، القريبة من حدودها مع تركيا، ومن مقاطعة "أرمينية" في تركيا على حدودها المشتركة مع إيران.

والمعروف عند أهل الكتاب من "سفر التكوين" (تكوين 8/4) أن مرسى سفينة نوح هو "أراراط": "واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم، عشر من الشهر على جبال أراراط".
وإذا علمت أن "أراراط" في عبرية التوراة يعني "أرمينية" نفسها (راجع "أراراط" في المعجم العبري "هملون هحداش لتناخ")، فقد علمت أن سفر التكوين لم يسم جبلاً بعينه لمرسي نوح، وإنما قال ببساطة إن السفينة رست على "جبال أرمينية".

ولكن الناس تناسوا هذا أو أنسوه، فوهموا أن ثمة جبلاً بعينه اسمه "أراراط" رست عليه السفينة، وأن رحالة عثروا في قمته على حطام رجحوا أنه حطام "الفلك المشحون"، رغم أن الفلك لم يتحطم على قمة الجبل، بل رست السفينة بسلام: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} (48) سورة هود.
ولكن التسمية ثبتت وانتهي الأمر. تجدها في المعاجم الأوربية علما على جبل بعينه في أرمينية شرقي تركيا (راجع مادة Ararat في Webster's). قرب حدود أرمينية المشتركة مع إيران، يبلغ ارتفاع إحدى قمتيه حوالي 5128 مترا.

من هنا طنطن مستشرقون عدوا بغير علم. قال القرآن "الجودي" وقالت التوراة "أراراط". ولكن التوراة لم تقل "أراراط" كما مر بك، وإنما قالت (جبل من جبال "أراراط")، أي في أرمينية، لم تسمه، وسماه القرآن.
أما ذلك "الجودي" الذي في الموصل على ما ذكره مفسرو القرآن، فليس هو بالضرورة الجودي المعني في القرآن، بل الراجح عندي أنه جبل تسمي بهذا الاسم بعد نزول القرآن.
لا خلاف إذن بين التوراة والقرآن في تسمية مرسي نوح، لا لأنهما تطابقا، وإنما لأن التوراة عممت، وخصص القرآن.

وقد مر بك أن الأعلام الموحي بها في القرآن على غير سابقة في التوراة والإنجيل تجئ في القرآن "عربية" على أصلها . أما معني "الجودي" في العربية فلك أن تفسره بأنه المنسوب إلي الجود، أي "ذو الجود" وجاد المطر يعني كثر، والجود بفتح الجيم يعني المطر الغزير الذي لا مطر فوقه. وأنت تعلم أن الجبال العالية التي تذوب ثلوجها في الربيع تفيض منها المياه سيولا وأنهارا ومنها جبال"أرمينية" منابع الفرات.

ولكنك إن تمعنت في مراحل بدء الطوفان وانحساره ورسو الفلك، وقارنت بين ما ذكره سفر التكوين من ذلك وبين ما قاله القرآن، تجد أن سفر التكوين ينبئك أن السفينة رست على جبال"أراراط" في السابع عشر من الشهر السابع لبدء الطوفان،"وكانت المياه تنقص متواليا إلي الشهر العاشر. وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال" (تكوين 8/4-5). فتفهم أن السفينة رست قبل نحو 73 يوما من ظهور رؤوس الجبال، فعلي أي الجبال رست إذن إن لم تكن قد رست على أعلاها. بل وعلي أمعنها ارتفاعا، الذي يصل ارتفاع إحدى قمتيه كما تقول المعاجم إلي 5128 م؟ وهذا غير منطقي لأنه بالغ المشقة على نوح والذين معه، شبابا وشيوخا ونساء وأطفالا، الذين سيهبطون إلي السهول من هذا الارتفاع الشامخ.

أما القرآن فيقول لك إن الماء"غيض أولا"، ثم استوت السفينة، استوت بعد أن غيض الماء تماما حتى استوت السفينة على "قاع" من الأرض، هبط إليه نوح والذين معه بسلام. (هود 44).
كان بسم الله مجراها ومرساها ، أي كان بسم الله حملها على سفح الماء، وكان باسمه عز وجل أيضا إهباطها إلي اسفح من الأرض، شاطئ نهر أو ناحية جبل.

والعرب يسمون شاطئ النهر وناحية الجبل، "الجد"، "الجدة" (ومنه اسم الميناء المعروف "جدة" بالمملكة العربية السعودية).
أفيكون "الجودي" أصله"الجدي" المنسوب إلي "الجد"، فهو المرسى، استعيض عن تشديد داله بمد حركة جيمه؟
إن صح ذلك - وهو غير بعيد - كان معنى "استوت على الجودي"، والله بغيبه أعلم، أن السفينة رست على مرساها، لا أكثر ولا أقل، دون تحديد لموقع.


... يتبع

السبت، ١٢ مايو ٢٠٠٧

الملأ الأعلى

السلام عليكم

(إبليس - جهنم – الفردوس - عدن) هل هي أسماء عربية أم أعجمية؟!... كل هذه الأسماء أتت في القرآن الكريم ممنوعة من الصرف مما أثار حيرة المفسرين وتسبب في تضارب آراءهم!
كيف تعرضت التوراة والإنجيل لهذه الأعلام من قبل نزول القرآن؟!
هيا بنا نتابع الرحلة مع مؤلف كتاب "من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن" لنبحث عن الحقيقة في كتاب الله عز وجل....

مع تحياتي


من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

الملأ الأعلى
*****

(1)
إبليس

يتقدم الملائكة، والجن أيضا، في الخلق على آدم، أي كانوا قبل أن يوجد. تستدل على هذا بمثل قوله عز وجل :
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (85:71)سورة ص.

تستدل من هذا ، ومثله في القرآن كثير ، على أن الملائكة رضوان الله عليهم أسبق وجودا من آدم، لأنهم نُبئوا بخلقه من قبل أن يخلق، وأمراوا بالسجود له من قبل أن يشرع الله عز وجل في خلقه، وقبل أن يفرغ عز وجل من تسويته، وينفخ فيه من روحه.
وتستدل منه أيضا على أن "إبليس" كان موجودا في الملأ الأعلي يوم فرغ الله عز وجل من خلق آدم، بدلالة توجه الأمر إليه بالسجود لأدم. وإبليس من الجن بمقتضي قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (50) سورة الكهف. بل الجن أسبق وجودا من الإنس بنص قاطع في القرآن : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} (27:26) سورة الحجر، والجان هم الجن بلا خلاف.

وتستدل من هذا أيضا على أن اسم "جهنم" ، علماً على النار التي يعذب بها العصاة والكفرة كان معلوما لإبليس لحظة أن "فسق عن أمر ربه"، لأن الله عز وجل توعده بها هو ومن اتبعه، والوعيد لا يكون إلا بموجود معلوم، فدل هذا على أن جهنم أسبق وجودا من آدم، لأن إبليس علم أمرها قبل أن يتأبي على السجود، أي قبل النفخ في آدم.

بل الجنة أيضا أسبق وجوداً من آدم، لأن الحكم باللعن تضمن طرد ابليس منها لحظة تأبي على السجود: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (13) سورة الأعراف، وقوله عز وجل عقيب هذا مباشرة لآدم : {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (19) سورة الأعراف.

وهي نفسها الجنة التي أهبط منها آدم وزوجته بإتيانه ما نهيا عنه، استجابة لوسوسة إبليس. وهي نفسها أيضا الجنة التي وعد بها المتقون يوم توفي كل نفس ما كسبت. وما "عدن" إلا نعت لتلك الجنة على الإضافة... لا "عدن" في كل القرآن إلا ولفظ الجنة مضاف إليها، منعوتاً بها . أما "الفردوس" التي وردت مرتين فقط في كل القرآن، فهي "أوسط الجنة". وسيأتي بيان هذا في موضعه.

*****
ومن المفسرين من غلبت عليه اسرائيلياته فظن أن " إبليس" لم يكن من الجن (راجع في هذا ما حكاه القرطبي في تفسير الآية 34 من سورة البقرة)، وإنما كان من الملائكة (هذا هو قول أهل الكتاب في " إبليس" قبل أن يبلس)، بل كان رفيع الرتبة فيهم ، فكان قائد جند الملائكة الذين حاربوا الجن حين أفسد الجن في الأرض قبل خلق آدم، فدخله من ذلك خيلاء وعجب أهلكاه حين أمر بالسجود لمن ظن أنه خير منه. ومنهم من قال بل كان إبليس من الجن الذين حاربهم الملائكة فأسروه صغيرا وربي فيهم، حتى أسجد الله الملائكة لآدم فشمله الأمر بالسجود. وهي تعليلات لتبرير وجود إبليس في الملأ الأعلى يوم أمر الملائكة بالسجود لآدم ودخوله من ثم في جملة المأمورين بالسجود لآدم، أو لتبرير الاستثناء في قوله عز وجل: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ..... } (74) سورة ص. وهي في رأينا افتعالات افتعلوها لحل إشكال ما كان لهم أن يفتعلوه، فقد نص القرآن على أن إبليس كان من الجن: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (50) سورة الكهف. ولم يخبر القرآن بأن صنف الجن كانوا قبل زلة إبليس ممنوعين من دخول الجنة.

أما القول بأن إبليس كان من الملائكة المأمورين بالسجود بدليل استثنائه بالحرف "إلا"، فليس بشئ. لأن "إلا" هاهنا يتعين فهمها بمعنى "لكن" - وهذا من فصيح العربية - أي سجد الملائكة، لكن إبليس لم يسجد. يتعين هذا لأن النص القرآني المحكم، أي الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فقط، يحكم النص القرآني الذي يحتمل معنيين فأكثر، وليس لعبارة "كان من الجن" إلا هذا المعنى القاطع (من المفسرين من تظارف موفقا بين النصين فقال بلي كان إبليس ملكاً من طائفة رفيعة القدر من الملائكة تدعي "الجنة" وهو تظارف ممجوج).

أما دخول إبليس في جملة المأمورين بالسجود لآدم، رغم اتجاه الأمر بالسجود للملائكة وحدهم وليس إبليس منهم، فلك أن تفسره على أحد قولين:
الأول- الذي نرجحه- أن الأمر للملائكة بالسجود يتجه إلى كل من شهده حتى النبت والشجر، فهو سجود الطاعة والإذعان لله عز وجل، لا لآدم، وإن كان مناسبة لتشريفه، وإشعاراً بما سيكون من شأنه، فلا يجوز لكائن من كان أن يحضر سجدة لله عز وجل في غير الصلاة ولا يسجد. ولا يجوز لكائن من كان أن يشهد الملائكة سجداً ولا يخر على جبهته. وما يكون لك أن تتخيل الملائكة سجداً خشعاً وإبليس منتصب في مكانه لا يخنع. وما كانت هذه لتفوت إبليس لولا أن الحقد أطغي قلبه، وأعمى بصيريته. لم تكن هذه السجدة امتحانا للملائكة، فقد علم عز وجل أنهم لا يعصون له أمرا،ولكنها كانت امتحانا لإبليس، فكشف اللعين عن مكنونة نفسه. فأثم بها في حق الله، لا في حق آدم، وأصر عليها فلم يعتذر منها ولم يتب، بل استدرك على مولاه: {قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (33) سورة الحجر، أي ليس لك أن تأمرني بهذا، فأنا أرفع منه، يحيل على خالقه عز وجل أن يحكم في ملكه كيفما شاء، ويؤصل حجته بما يفندها، فيقول : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (76) سورة ص. مقراً بأن الله خالقه، فكيف يعصيه؟

أما على القول الثاني فهو أن إبليس أمر بالسجود لآدم أمراً مباشراً لحظة إسجاد الملائكة لآدم، لم ينص القرآن عليه اكتفاء بدلالة ما تلاه من قوله عز وجل: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (12) سورة الأعراف. كيفما كان الأمر ، فإبليس ليس بالقطع من الملائكة رضوان الله عليهم، فهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (27) سورة الأنبياء. ولم يسو القرآن بين الجن والملائكة، بل هو يضع الجن والأنس في زمرة واحدة، هي زمرة المبتلين بالطاعة والمعصية، من كليهما مؤمن وكافر، ومنهم الفاسق والبار، فريق في الجنة وفريق في السعير، مصداق هذا قوله عز وجل على لسان نفر من الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} (15:14) سورة الجن، ومنه أيضا سورة الرحمن التي تخاطب الإنس والجن على سواء، وفيها : {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} (56) سورة الرحمن، أي أبكار لأصحاب الجنة من الإنس لم يطمثهن إنس فيمن طمثوا من نساء الإنس، وأبكار لأصحاب الجنة من الجن لم يطمثهن جان فيمن طمثوا من نساء الجن (وليس كما يذهب إليه أهل الخرافة والشعوذة ورواة الأساطير عن إلمام رجال من الجن بنساء من الإنس، أو العكس).
وهذا يفسر لك بأجلي بيان قوله عز وجل : {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (50) سورة الكهف، التي تفهم على التفسير كما تفهم على الخبر، أي أنه لو لم يكن من الجن لما فسق عن أمر ربه، ولكنه كان في زمرة المبتلين بالطاعة والمعصية، فغلبته شقوته، وأهلكته كبرياؤه، ولا يظلم ربك أحدا.

ولكن إبليس – وقد خرب آخرته بيديه- استمهل الله عز وجل ألا يزج به من فوره في دار العذاب ريثما ينتقم لنفسه من آدم وبنيه إلى قيام الساعة، متبجحا على الله عز وجل بأن نسب إليه غوايته بآدم : {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (17) سورة الأعراف. لم يطلب التوبة والمغفرة، بل آثر أن يزداد رجسا إلى رجسه. لم يقل فأنظرني إلى يوم يبعثون أندم و أتب، بل قال فلأضلنهم كما ضللت ، ولأغوينهم كما غويت، فنكون في النار سواء: لا أهلك أنا وينجو آدم وبنوه.

وليست زلة إبليس بالتي تعدل زلة آدم، لأن إبليس زين المعصية لآدم، فكان لإبليس كفل منها، وشرك فيها . أما إبليس فزل بنفسه، أزلته كبرياؤه، فقصد المعصية قصدا، واستكبر بها استكبارا.
كان زلة آدم زلة الغافل الناسي: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} (115) سورة طـه. وكانت زلة إبليس على علم، ولا أفدح من سقطة عالم.

علي أن الدرس المستفاد من الزلتين واحد: إنه درس الطاعة، أمرك مولاك فأطعه، لا تتمحك بطلب العلة، وكأنك مفوض في الطاعة والمعصية، أو كان الطاعة والمعصية رهن باستحسانك.

*******

ولا شك أن إبليس كان قبل أن " يبلس" في عداد الجن المؤمن، يعمل في طاعة الله عز وجل، بل سكن الجنة، وجاور الملائكة رضوان الله عليهم، بدليل طرده منها فور عصيانه: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (13) سورة الأعراف، خرج منها الرجيم { مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا} (18) سورة الأعراف، لإصراره على المعصية، كما خرج منها أيضا آدم وزوجه حين استجابا لأغواء إبليس. ولكن آدم وزوجه اعترفا بذنبهما وسألا الله الرحمة والمغفرة: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف. طلبا التوبة فلقنهما الله عز وجل ما يسألان به التوبة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (37) سورة البقرة. ولم يسألها إبليس، لأنه شغل بعداوته لآدم عما سواها، وإن كان فيها هلاكه هو ذات نفسه، وهذا هو الضلال المبين.

أخرج الله آدم وزوجه من الجنة تائبين، قد أخذ عليهما العهد أن يخلصا له الدين. وما الدنيا بكل ما عليها إلا تمحيص من الله عز وجل لعباده أيهم باق على هذا العهد، مخلص له الدين. وما كان آدم الذي شهد وعاين بالذي ينخدع مرة أخري بإبليس، فيعصي الله في الأرض بعد زلته في الجنة، ولكن الاختبار لبنيه. ولأن نسل آدم لم يشهد ولم يعاين: لم يشهد إسجاد الملائكة لآدم، ولم يشهد عصيان إبليس، ولم يشهد زلة آدم، ولم يسمع إبليس يستعلن له بالعداوة إلى يوم الدين، فما كان من العدل أن يتركوا في جهالتهم، يصول فيهم إبليس ويجول. بل شاء الله عز وجل – عدلاً منه ورحمة- أن يودع فيهم دين الحق فطرة، فأشهدهم قبل الاختبار على أنفسهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (172) سورة الأعراف، ووصي بها آدم حين مهبطه من الجنة ، وقد أهبط معه إبليس عدواً... {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124:123) سورة طـه. فكان آدم عليه السلام أو الرسل والأنبياء، يقص ما كان: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} (27) سورة الأعراف، وتتابعت الرسل تتري، كي لا تكون للناس على الله حجة من بعد الرسل ، ومن ضل من بعد فإنما يضل عليها، وما ربك بظلام للعبيد.

*****

ويري المفسرون بحق أن إبليس لم يسم " إبليس" إلا بعد أن أبلس، لأن هذا الاسم – إن اشتققته من العربية – فيه مذمة، والمذمة تكون بعد اجتراح الذنب لا قبله، ويه تكون مساوية للذنب، دالة عليه، أو صفة لصاحبه بما آل إليه، ويروي المفسرون أن إبليس قبل أن يبلس كان اسمه "عزازيل" ثم أبلس بعد، ولم يتعرض المفسرون لمعنى "عزازيل" هذه، لأنهم لا يعرفون العبرية التي يسهل اشتقاق هذا الاسم منها ، فتفهم أن الرواية من أقاصيص أهل الكتاب، تصح أو لا تصح، فالله عز وجل أعلم بغيبه. ونحن في هذا الكتاب لا يعنينا في المقام الأول اسم إبليس قبل أن يبلس، لأننا لا نتعرض إلا للأعلام المنصوص عليها في القرآن ، لا المروية في غيره. ولكن الطريف أن "عزازيل" هذه اسم عبراني مركب (عزاز+ إيل) يفسره علماء العبرية بمعنى "الذي أعزه الله"، فهو "العزيز بالله" .وهو علم وقعت التسمية به في العبرية ، ومثله "عزيئيل" (عزي+ إيل) ، أي "عزة الله" وكأن اللعين حين أقسم بعزة الله: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (82) سورة ص، كان يوري باسمه هو ، يقسم بنفسه، لا بعزة الله عز وجل. والله بغيبه أعلم.

والذي يجب التنصيص عليه في هذا السياق، هو النعي على أهل التفسير والسير ، وأيضا على أهل الفن والفكر والأدب، الذين تناقلوا ما دسه إبليس على أوليائه من أساطير وتهاويل لا يخلو منها "أدب الخرافة" في كل الشعوب ، تتحدث عن "أمجاد" إبليس قبل أن يبلس، تريد تفخيمه وتعظيمه وغرس المهابة منه في صدور الناس، حتي خصوه بأضوأ كوكب في السماء الدنيا، كوكب الصبح؛ أي كوكب "الزهرة"، وجعله بعضهم نداً لله ، وجعله بعضهم شهيد البطولة في محنة السجود لآدم، وأول من قال "لا".

ليس التنكر للخالق عز وجل بطولة، لا صحيحة ولا زائفة، وإنما هو وضاعة. هذا كله فسوق وصغار: لا يجوز لمؤمن تجميل ما قبحه الله ، ولا يجوز لمؤمن إعلاء ما وضعه الله أسفل سافلين. لا يجوز لمؤمن تمجيد ما رذله الله ، ولا يجوز لمؤمن تعظيم من لعنه الله، ناهيك بموالاة عدو الله. بل لا يجوز لعاقل موالاة من أقسم ليجرنه وراءه إلى قاع جهنم.

أيما كان الأمر، وأيما كان حال إبليس قبل أن يبلس، فقد ضرب لك الله بإبليس المثل: لا يتعظمن أحد على الله، ولا يستكبرن أحد على طاعة الله ، ولا يستنكفن أحد من الخضوع لله. قد هلك بها إبليس أول هالك، فحذار أن تزل به، فتشركه المصير الذي اختار لنفسه.
لا يترحمن أحد على إبليس، وقد أقسم لا يرحمك, ولا يتباكين أحد على إبليس ، فلم تدمع لإبليس عين : كان إبليس عدو نفسه، قبل أن يكون عدوك.

*******

ليس في التوراة "إبليس"، وإنما فيها "ساطان" بمعنى العدو، وهي نفسها "شيطان" العربية، كما مر بك.
وفي العبرية أيضا "عزازيل" اسما علما لإبليس ، ومعناها "عزيز الله"، على ما يوري من شأنه قبل أن يبلس في أقاصيص أهل الكتاب، وربما جاء الخلط عند أهل الكتاب من افتقار العبرية إلى اسم لصنف الجن، بل تسوي في الاسم بين الملائكة والجن: كلاهما فيها "روح"، "ملآخ"، أي روح، ملك.

ليس في الأناجيل اليونانية أيضا"إبليس"، بل فيها "ساتان"Satan وهي نفسها "ساطان" العبرية على الرسم اليوناني، وترجمت في الأناجيل العربية بلفظ "شيطان"، وبلفظ "إبليس" أحيانا، لا على الترجمة، وإنما استئناسا باسمه الوارد في القرآن.

وفي الأناجيل اليونانية اسم آخر للشيطان، وهو "ذيبليس" Diabolos (والسين فيه للرفع وتحذف في غيره) ومن هذه جاءت Diable الفرنسية و Devil الانجليزية، وأشبهاهما في اللغات الأوربية الحديثة بمعنى "الشيطان" لا أكثر ولا أقل. وقد خالفت تلك اللغات بين أصل وضع اللفظين" ساطان" و"ذيبليس"، فهي تجعل "ساطان"، اسما علما للشيطان يناظر"إبليس" في العربية، وتأخذ "ذيبليس" على أنه "اسم معني" يقبل التنكير كما يقبل الإفراد والجمع.

أما "ذيبليس" اليونانية فليست ترجمة يونانية للفظ "ساطان" العبري (بمعنى العدو) كما قد يظن، وإنما هي على الفاعلية من اليونانية "ذيابولي"Diaboli وهو "القذف" بالمعنى القانوني أي الرجم بالباطل، فهو الرجيم بمعين الراجم، لا رجيم بمعنى مرجوم كما تجد في القرآن. وربما تعللت لهم في هذه التسمية بقولهم إن الشيطان افترى على الله الكذب، ينسبه إلى الظلم لأنه عز وجل فضل عليه آدم، فلما اعترض - وكأنه محق في هذا الاعتراض - سلبه الله عز وجل كل جماله، وأودع فيه كل قبح، أي مسخ الملك الذي كانه، على نحو ما تجد في أقاصيص أهل الكتاب وفي الأساطير التي نسجت حول إبليس. وربما أيضا لأنه أبو الباطل، أي أصل كل تجديف على الواحد الأحد جلا جلاله، من عقائد باطلة وآلهة مصنوعة، كما تجد في قوله عزوجل على لسان نفر من الجن المؤمن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (5:3) سورة الجن، ومن هنا تري أن "ذيبليس" اليونانية هذه ليست ترجمة للفظ "ساطان" العبري بمعنى العدو، وهي شيطان العربية، وإنما هي بالأحرى صفة لإبليس بمعين القاذف الراجم، أي الذي يفترى الباطل. وربما ظننت أن "ذيبليس" Diabolos اليونانية هذه ليست أصلا يونانية، بل عبرية - آرامية نطق به المسيح وتحرفت في الأناجيل: ربما كانت "دى- هبل"، تحرفت إلى "ذيبليس" عند من يهمسون الهاء وينطقون دالهم ذالا - اليونان كما مر بك - أما "دى" عبريا فمعناها "ذو"، وأما "هبل" عبريا فمعناها الباطل الذاهب هباء.

******

ومن المستشرقين من قال بأن"إبليس" معربة في القرآن عن "ذيبليس" التي في الأناجيل، كما أخذ "شيطان" من "ساطان" العبرية. ومن مفسري القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 34 من سورة البقرة) من قال بعجمة"إبليس"، وأنها منعت من الصرف لهذا السبب وحده، ولكنهم لم يذكروا الأصل الذي عرب عنه، ولم يسموا اللغة المشتق منها.

ومن اللغويين العرب كذلك من يرون أن "إبليس" من الأعجمي المعرب (أبرزهم "مجمع اللغة العربية"، راجع "المعجم الوسيط" الذي يضع "إبليس" في باب الهمزة)، يكتفون بذلك ولا يسمون اللغة المشتق منها. أما الكثرة من مفسري القرآن (راجع القرطبي في نفس الموضع) فهم يقولون بعربية "إبليس" يشتقونها من الإبلاس، ويعللون امتناع الصرف بالعلمية وانعدام النظير في أسماء المعاني، فشبه بالأعجمي.

والذي يستوقف النظر، أن أشهر معاجم اللغة الانجليزية (WEBSTER'S NEW WORLD DICTIONRY) على شغفه برد الألفاظ والأعلام الأعجمية (أعني غير الانجليزية) إلى جذورها البعيدة في شتى اللغات الحية والميتة على السواء، يتوقف في "إبليس" فيقول: اسم عربي يطلقه المسلمون على الشيطان، ولا يذكر أصله من العربية أو غيرها.

هذا وذاك يدلانك على أن عجمة "إبليس"، أو اشتقاقها من "ذيبليس" اليونانية بالذات، مسألة فيها شك عند اللغويين الأثبات لا يقطعون فيها بيقين، لأن القول بعجمة لفظ في لغة ما يتطلب - أول ما يتطلب - التدليل على وجود أصل لهذا اللفظ في لغة بعينها استعير منها.

والملاحظة الأولى على خطأ القول بأن"إبليس" معربة عن "ذيبليس" بحذف دالها البادئة (المنطوقة في اليونانية ذالا) وإبدال الهمزة منها، أنه قول لا يصح في حق القرآن، الذي يتنزه عن هذه الصورة "البتراء" من صور التعريب، التي لم يقع مثلها قط في "معربات" القرآن. هذا مالم يسلم أولئك المستشرقون للقرآن بالتضلع من فقه اللغة اليونانية، فيدرك أن المقطع "ذيا" Dia من مقاطع الزيادة في تلك اللغة، يجوز الاستغناء عنه. والفقيه باليونانية لا يستعصى عليه أصلا معنى لفظ "ذيبليس" في تلك اللغة - وقد مر بك معناه - فلا يستعيره ولديه من العربية في معناه ما هو أبلغ وأبين.
أما الملاحظة الثانية فهي أن العرب لم يعرفوا"ذيبليس" اليونانية هذه قبل القرآن أو بعده، لا على أصلها ولا في صورة محرفة، وإلا لوقعت في تفاسير المفسرين وليس من شأن القرآن كما مر بك أن يتعاجم على المنزل إليهم بالأعجمي الأعجم.

إبليس عربية. ولكنها من "العربي" المشكل.

ووجود اللفظ المشكل في القرآن مقصود: إنه يستثيرك إلى تحري المعني، فتزداد علما، وتزداد فهما، وتزداد إيمانا. والمشكل يستوقفك للبحث والنظر، فتكون ممن قال فيهم الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (73) سورة الفرقان.

وقد أشكلت "إبليس" على القائلين بعجمتها وعل القائلين بعربيتها معا.

أما الأولون فهم ذلك الفريق من المفسرين واللغويين الذين إذا استغلق عليهم لفظ في العربية سارعوا إلى افتراض عجمته، وتلمسوا له النظير في غيرها من اللغات. وقد أسرفوا في هذا أيما إسراف، بل كانوا التكأة التي توكأ عليها أدعياء الاستشراق الذين بهروا تلاميذهم، وقد ظنوا أنهم أتوا بجديد. من ذلك قولهم (راجع مقدمة تفسير القرطبي) إن "غساق" يعني اللحم البارد المنتن في لغة الترك؛ فلا تدري كيف يجتمع الحميم والغساق في قوله عز وجل: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} (25:24) سورة النبأ، وقولهم إن "القسطاس" يعني الميزان بالرومية، وليس في الرومية من هذا شئ، بل "قسط" العربي، "قاشاط" العبري، أولي، وقد مر بك القول في "قسطاس". ولكن "إبليس" استعصت على هؤلاء المفسرين فلم "يهتدوا" إلى أصل لها في لغة أعجمية (مصداق هذا أن القرطبي رحمه الله، الذي جاور الأسبان في الأندلس وفهم لسانهم، يذكر في تفسير الآية 9 من سورة يس: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (9) سورة يــس، كيف أنجته تلاوة هذه الآية من علجين من الأعاجم أرادا الانقضاض عليه فأعماهما الله عنه لم يرياه فقالا: هذ ديبله؛ وفسر القرطبي ديبله هذه ( وهي Diabloالآسبانية أي "ذيبليس" اليونانية) بأنها تعني شيطان بلسانهم، ولم يقل إبليس، لأنه لم يسمع بتعريب إبليس عن ذيبليس).

أما الفريق الثاني القائل بعربية "إبليس" فلم يكن أمامه إلا اشتقاقها من الإبلاس. يعني أنها "إفعيل" من "أبلس" ، فهو المبلس على المبالغة. وقد ورد لفظ "الإبلاس" في القرآن خمس مرات: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} (12) سورة الروم، {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (44) سورة الأنعام، {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (77) سورة المؤمنون، {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (75:74) سورة الزخرف، { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } (49:48) سورة الروم.
وليس في هذه الآيات ما يشهد لمعنى الإبلاس إلا الشاهدان الثاني والخامس، أي وضع الإبلاس في مقابلة الفرح والاستبشار، وربما استنبطت من "إبلاس المجرمين يوم تقوم الساعة" في الشاهد الأول أن الإبلاس حال من اليأس وانقطاع الرجاء، ومن الشاهدين الثالث والرابع كذلك.

أما المعجم العربي فيقول لك إن "أبلس" يعني سكت لحيرة أو انقطاع حجة، وليس في العربية إلا أبلس بالهمزة غير متعد، وكأنها من "بلس فأبلس" إلا أنه لم تسمع"بلس". وفي "العبرية" بلس يعني قطف، أي جمع ثمار التين خاصة. والبلس في العبرية نوع من التين.هذا وذاك يدلانك على أن المعنى الأصلي لمادة "بلس" هو القطع، وكأنه مبدل من "بلت" يعني "قطع". والانقطاع يفسر"الإبلاس" أبين تفسير في الآيات التي تلوت توا، تطبقه على الشواهد القرآنية الخمسة فيستجيب. وهو يفيد أيضا في تأصيل معني"أبلس" في المعجم العربي، وهو الإطراق تحيرا والسكوت لانقطاع الحجة. وفي العربية أيضا "بلسم" وهي "بلس" مزيدة بالميم، ومعناها أطرق وعبس وجهه، وهي من "أبلس" قريب. وكأن معنى "إبليس" المقطوع الحجة في الامتناع عن السجود لآدم، أو هو - كما ذكر القرطبي- الآيس من رحمة الله وقد فعل ما فعل.

هذا إن اشتققت "إبليس" من الإبلاس، وليس عندي بوجيه، كما سترى. مر بك أن العلم المذكور في القرآن على غير سابقة في التوراة الإنجيل برد في القرآن على أصله عربيا، لأنه لم تثبت له العلمية من قبل بلفظ مغاير يوجب على القرآن التزامه، كما ثبتت العلمية لجبريل وميكال ونوح ولوط، الخ، على اللفظ الآرامي- العبري في صحف إبراهيم وموسى. ولم يرد ذكر للفظ إبليس في التوراة والإنجيل بنصهما المعاصر لنزول القرآن.

وقد ثبتت العلمية لإبليس بهذا في الملأ الأعلى على النداء من الله عزوجل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (32) سورة الحجر، هذا قاطع في أن إبليس سمي بهذا الاسم قبل إهباط آدم من الجنة، أي على اللفظ العربي قبل أن تتفرق ألسنة البشر لهجات فلغات، شأنه شأن آدم، خلافا لجبريل وميكال اللذين لم يخاطبا في القرآن على النداء من الله عزوجل لسبق ثبوت العلمية لهما على اللفظ الآرامي - العبري في التوراة والإنجيل. أما إبليس وآدم فقد خوطبا على النداء من الله عز وجل باسميهما هذين، فهما كما قال سبحانه، لا يبدل القول لديه.

والذي يتعين التنبيه إليه، أن تسمية إبليس بهذا الاسم في القرآن جاءت مقترنة بعصيانه، أي بامتناعه عن السجود لآدم، فور هذا الامتناع مباشرة، قبل صدور الحكم الإلهي بإدانته وانقطاع رجائه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} (78:75) سورة ص، والذي يلعنه الله فقد انقطع رجائه. فلا يصح أن تكون"إبليس" بمعنى الآيس من رحمة الله، كما تجد في "القرطبي"، لأن إبليس لم يكن قد يئس بعد. ولا يصح أن تكون بمعنى المقطوع الحجة، فلم يكن قد أدلي بعد بحجته: "خلقتني من نار وخلقته من طين".ولا يصح أن تكون بمعنى الذي أطرق تحيرا، لا يحير جوابا، فقد استعلن إبليس بمكنونة نفسه مجترئا على إبليس. وإنما الذي يصح هو أن تكون "إبليس" بمعنى العاصي، الرافض، المتأبي، الممتنع. وليس في "الإبلاس" من هذه المعاني شئ.

الراجح عندي، والله عز وجل بغيبه أعلم، أن "إبليس" تعني "الذي أبي"، كنية له بحال امتناعه وتأبيه، جاءت على المزجية من "أب+ليس، أي هو "أبو ليس"
وقد وردت "إبليس" في القرآن إحدى عشرة مرة، معقبا على سبع منها بالتأبي والامتناع والرفض: { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} (34) سورة البقرة، { إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (12) سورة الأعراف، { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى}(31) سورة الحجر، {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} (33:32) سورة الحجر، { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (50) سورة الكهف- فسق عن الأمر يعني خرج عليه-،{ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى } (116) سورة طـه، {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (75) سورة ص، وجاءت أيضا معقبا عليها بالاستكبار الذي يفيد الامتناع مرتين: {فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (61) سورة الإسراء، {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} (74) سورة ص. أما في المرتين العاشرة (الشعراء:95) والحادية عشرة(سبأ:20) فهما فقط اللتان جاءت فيهما "إبليس" على العلمية المجردة غير معقب عليها بشئ.

"إبليس" إذن هو "هامة العصاة"، أي "أبوهم".
والله عز وجل بغيبه أعلم.


(2)
جنهم

ليس في التوراة من أسماء النار" جهنم" ، وإنما فيها " شئول" أي الهاوية، وهي Hades اليونانية في الترجمة السبعينية للتوراة. والهاوية من أسماء النار في القرآن. وليس في المعجم العبري أصلا "جهنم" أو "جهنام" العربيتان بمعنى البئر البعيدة القعر، وهي نفسها " الهاوية" إن تمعنت.
وإنما في العبرية "جي– بني- هنوم"، أي وادي أبناء "هنوم"، التي اختصرت إلي"جي – هنوم" ، أي " وادي هنوم"، وموضعه بالحي الجنوبي الشرقي من أورشليم ضحى فيه " آحاز"، " منسا" بأبناء لهما قربانا للإله " مولخ"، وغدا من بعد مزبلة ومحرقة للنفايات، تحقيرا.

ولعلماء العبرية في اشتقاق "شئول" قولان: إما أنها من "شأل" العبري (وهو "سأل" العربي ومن معانيه "الطلب") فيكون معناها التي تطلب ولا تشبع، شأن جهنم في قوله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (30) سورة ق، وإما علي القول الثاني - وهو غير قوي- أنها متحرفة عن "شعول" من "شعل" العبري بمعنى خوي تجوف، فهي " الهاوية" أيضا.

أما الإنجيل فهو يذكر في ترجمته العربية "جهنم" بالاسم : "بل أريكم ممن تخافون. خافوا من الذي بعد ما يقتل، له سلطان أن يلقي في جهنم" (لوقا12/5)، يترجم به "جهنا" Gehenna في الأصل اليوناني، وهي باتفاق ليست يونانية، وإنما هي عبرية أو آرامية، فالأصيل في اليونانية "كولاسي" Kolasi، ومعناها "دار العقاب" ، جهنم أو الجحيم أو الهاوية أو ما شئت من أسماء النار، ولكن لوقا كدأبه آثر استبقاء "جهناً" علي أصلها، أقرب ما تكون إلى ما نطق به المسيح.

والراجح عندي أن المسيح عليه السلام نطق بها علي أصلها العربي "جهنام" حذف لوقا ميمها في الرسم اليوناني، علي نحو ما فعل في إنجيله أحيانا من حذف ميم "مريم" فرسمها في بعض مواضع Maria، أو أنه عليه السلام نطقها "جهنا" بحذف الميم ترخيما علي نحو ما كتبها لوقا، وأن "جهنا" هذه أو "جهنام"، هي المقابل الآرامي - لا العبري - لجهنم أو جهنام العربية، بمعنى البعيدة القعر، أي الهاوية، يعني بها "شئول" العبرية لا أكثر و لا أقل.

ولكن "اليونانية الكنسية" التي لم تجد في المعجم العبري أصلا تشتق منه "جهنا" الإنجلية هذه أقرب من "جي- هنوم" ظنتها الصورة الآرامية لــ"جهناً" أو "جهنام"، وفاتها أن المسيح عليه السلام في السياق المتقدم يخوف السامع بما بعد الموت، أي يخوفه بدار العذاب في الآخرة، لا بمحرقة للنفايا علي أطراف أورشليم، أعني"جي- هنوم"، التي لا تخيف أحدا مات أو قتل، فلا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها. وعلي هذا النحو مضي أدعياء الاستشراق يطنطنون بأن القرآن أخذ "جهنم" من "جي- هنوم" كما فعل لوقا من قبل في إنجيله.

وقد ضل هؤلاء المستشرقون علي علم، لأنهم أرادوا لأنفسهم هذا الضلال: القرآن لا يسمي"جهنم" اعتباطا، وإنما هو يصورها أبلغ تصوير وأبينه بمعنى الهاوية البعيدة القعر، تماما كمعنى جهنم وجهنام في المعجم العربي: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (49) سورة التوبة، { أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (109) سورة التوبة، {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} (29) سورة إبراهيم، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (68) سورة مريم، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (145) سورة النساء، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } (38) سورة الأعراف، الخ.

أفي"جي- هنوم" العبرية من هذه المعاني شئ؟ أليست"جي- هنوم"، أعني ذلك الوادي الذي لأبناء هنوم، اسم موضع معلوم؟ أليست "جي" العبرية (وهي من "جواء" العربية) تعني "الوادي"، بل الواسع من الأدوية؟ فكيف تجئ جهنم (الهاوية) من "الجواء" وهي أقرب إلى الضد منه؟ أليست الهاوية في المعجم العربي تعني البعيدة القعر؟ أليست هي وجهنام في المعجم العربي علي الترادف والتطابق؟ أفي معني"الوادي" و"الجواء" من هذا شئ؟
والذي يستوقف النظر أن المعاجم العبرية الأحادية اللغة، أي العبري- عبري، لا تفسر "جي- هنوم" بأنها تعني "دار العذاب" في الآخرة، وإنما تدرجها في ثبت الأعلام علي الموضع والمكان، أي ذلك الوادي في الجنوب الشرقي من أورشليم. أما المعاجم العبرية الثنائية اللغة، عبري- فرنسى علي سبيل المثال، فهي لا تترجم"جهنا" الإنجيلية إلي"جي- هنوم" العبرية وإنما تترجمها إلى "شئول" أي الهاوية، وحين تترجم "جي- هنوم" العبرية إلى الفرنسية تقول: "وادي هنو" الذي في أورشليم، ثم تثني فتقول: ومجازا= "جهنا". وقد أتي هذا "المجاز" بالطبع تأثراً بما جاءت به المسيحية من بعد، في تصورها أن "جهنا" الإنجيلية مشتقة من "جي- هنوم"، وليس بصحيح في ديانة اليهود.

علي أن القرآن لم يحتج إلي" جهنا" ولديه في أصيل العربية"جهنام"، ولم يعرب لفظ"جهنم" عن "جي- هنوم" البعيدة كل البعد عن معناه.

جهنم في القرآن عربية لا مشاحة، وإن رغمت أنوف.
أما أن "جهنم" ممنوعة من الصرف في كل القرآن فليس هذا لعجمتها، وإنما هو فقط للعلمية والتأثيث.


(3)
الفردوس

ليس في التوراة " فردوس" وهي برديس العبرية (بإملة الياء). وليس في التوراة أيضا "عدن" - وهي عدن العبرية - لا بمعنى " النعيم" (من عدن العبري المكافئ في العربية للجذر" غدن") , ولا بمعنى " الإقامة" ( من " عدن" العربي)، وإنما " عدن" في التوراة اسم موضع في هذه الأرض التي نعيش عليها ، يطلقه علماء التوراة علي إقليم ما فيما بين النهرين (العراق). أما " الجنة" (جان العبرية) فهي "حديقة" لا أكثر ولا أقل في إقليم "عدن" هذا (جان بعدن، أي جنة في عدن) "غرسها الرب الإله في عدن شرقا"، ووضع آدم هناك كالبستاني " يفلحها ويحفظها". ومن عدن هذه خرج نهر يسقي تلك الحديقة "الجنة"، ومن هناك ينقسم أربعة رؤوس أنهار، أصل كل أنهار الأرض (راجع في هذا كله سفر التكوين 2/8-15) .

ليست الجنة المعنية في التوراة هي "الجنة" المعنية في القرآن، وإنما هي حديقة صنعها الله لآدم ثم طرده منها لعصيانه، لا يعود إليها من بعد، لا هو ولا بنوه. ليست هي في السماء كما تستظهر من قوله عز وجل : {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا } (123) سورة طـه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } (40) سورة الأعراف.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (15:13) سورة النجم.
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (22:21) سورة الحاقة.
{وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (22) سورة الذاريات ، وأكبر من هذا كله وأبين قوله عز وجل: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (8) سورة العلق.
وليست كذلك الجنة في التوراة. "جنة التوراة" هي جنة آدم، بقعة في إقليم من هذه الأرض، لا "جنة عرضها السموات والأرض" كما أخبر القرآن: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133) سورة آل عمران، لا تسعها "عدن" التي في العراق، ولا العراق أجمع، ولا هذا الكوكب كله.

والحق أنك لا تجد في التوراة، ولا في الإنجيل أيضا، حديثا عن الدار الآخرة، لا مستفيضا ولا مجملا، وكأن "أهل الكتاب" أعرف بتلك الدار من أن تعرف لهم. فقد شغل كتبة أسفار التوراة بالأخبار والأنساب والسير، وشغل كتبة الأناجيل بسيرة عيسي عليه السلام وأعمال "الرسل"، ومجئ المخلص "عند اكتمال الزمان يضعون عليه أحمالهم. كان علي الذين يؤمنون بالله ورسله واليوم الآخر أن ينتظروا نزول القرآن حتى يعلموا علم تلك الدار مبسوطا مفصلا، مبينا ومعرفا: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (6) سورة محمد.

والإنجيل أيضا يتابع التوارة في قصرها " الجنة" علي تلك " الحديقة " التي طرد منها آدمن وحواء (وهي باليونانية "كيبوس" KIPOS). أما الجنة بمعنى دار النعيم في الآخرة فالإنجيل يسميها "ملكوت السموات" ( في أحد معاني هذا التعبير الإنجيلي)، و "بنو الملكوت" في لغة الانجيل هم "أصحاب الجنة" بالمعنى القرآني، أما "أصحاب النار" فهم الممنوعون من دخول الملكوت. ولكنك لا تعلم من الإنجيل شيئا في وصف نعيم "بني الملكوت" هؤلاء إلا أنهم في صحبة الملائكة والأنبياء والصديقين الأطهار. من هنا كانت السماء (Heaven) مرادفا لمعنى الجنة عند الأوربيين المسيحيين. ولئن كان الإنجيل- بوضعه الجنة في السماء- قد سجل تقدما بالغ الخطورة علي التوراة التي بين يديك، فقد كان التعبير بلفظ" الملكوت" عن دار النعيم في الآخرة غير دقيق، لأنك تعلم من القرآن أن هذا الملكوت الذي في السماء يتجاور فيه علي سواء أهل الجنة وأهل النار: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} (46) سورة الأعراف، يتنادون: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (50) سورة الأعراف.

وينفرد الإنجيل من دون التوراة التي بين يديك بالنص في ترجمته العربية علي "الفردوس" بالاسم، فقال له يسوع الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس" (لوقا 23/43)، ترجمة لليونانية "براذيسو" Paradeiso أخذتها اللاتينية علي علاتها Paradisus ومنها Paradis الفرنسية و Paradise الانجليزية.

وقد أعضلت " براذيسو" اليونانية هذه علي الذين ترجموا من بعد الأناجيل اليونانية الأصل إلي العبرية ( لغة المسيح)، ولكنهم فهموا من السياق وحده أن المسيح يعني "جنة عدن"، أي "الجنة التي في عدن" ، أعني "جان بعدن"، فترجموا " اليوم تكون معي في الفردوس" إلي العبرية هكذا: "تهيه هيوم عمادي بجان عدن"، وقد مر بك أن "جنة عدن" في التوراة هي "جنة آدم"، لا شأن لها بدار النعيم في الآخرة، فتفهم أنهم لا يعرفون للفردوس مقابلا في العبرية هو "برديس"، أو بالأحري أنهم لا يفهمون من "برديس" العبرية المعنى الذي أراده المسيح والمفهوم من السياق. وتدرك أيضا أن مترجمي الأناجيل إلي العربية ما كانوا ليضعوا "الفردوس" موضع "براذيسو" اليونانية لو لم يتنزل القرآن بتسمية "الفردوس"، وإلا لقالوا "البستان" أو "الحائط" (بمعنى البستان)، وهي الترجمة الدقيقة للفظ "براذيسو" اليونانية ، كما تدرك لماذا لم يقولوا "الجنة"، لأنهم يعلمون أن "جان" العبرية هي "جنة آدم"، لا دار النعيم في الآخرة. وتدرك أخيرا كم استفادت اليهودية والمسيحية من القرآن في جلاء الضباب عن كثير من غوامض تلك المعاني العليا.

ولكن المستشرقين مرضي الهوي والغرض يقولون لك إن القرآن نحت "فردوسه" من "براذيسو" التي في إنجيل لوقا، وأخذ "جنات عدن" عن تلك الجنة التي في عدن، " جان بعدن" من سفر التكوين.

*****

أما " براذيسو" اليونانية هذه فليست يونانية ، ولا علم لليونان بها قبل عصر المسيح، وإنما هي منحولة كما يقول اللغويون من الفارسية (بيري+ ديزا) Daeza+Pairi (بيري = حول، ديزا= جدار) فهي السور أو الحائط، استعير للبستان أو الحديقة، كما استعارت العربية لفظ "الحائط" أي المحوط، لهذا المعنى نفسه، باعتبار السور الذي يحوطه ويحفظه، لا باعتبار محتواه. فلا تدري لماذا يأخذ كتبة الأناجيل من الفارسية القديمة ولديهم في اليونانية "بريبولي" Periboli بنفس المعنى - أي الحائط بمعنى البستان - ولديهم أيضا مطلق الحديقة Kipos، أما إن أرادوا حديقة الفاكهة خاصة فلديهم " أبوروكييوس" Oporokipos. لا يفعل كتبة الأناجيل اليونانية هذا إلا إذا كانوا قد سمعوه من المسيح عليه السلام ملفوظا علي نحو قريب من " براذيسو" فتأول لها اللغويون هذا الأصل الفارسي القديم كما مر بك، دون أن يتساءلوا عن سبب نطق المسيح عليه السلام بهذا اللفظ الفارسي القديم ، ولديه في لغته "جان"و "جنا"، إلا إن كان عليه السلام يقصد جنة بعينها.

وهذا يعود بك مباشرة إلي "برديس" العبرية، التي تنكر لها مترجمو "براذيسو" في الترجمة العبرية للأناجيل اليونانية. ولكن " برديس" العبرية اسم جامد، لا اشتقاق له في المعجم العبري ولا جذر له في العبرية يرد إليه، فهو إما دخيل علي تلك اللغة، وإما اسم أميت جذوره وبقي الاسم بمعناه.

*******

وردت الفردوس في القرآن مرتين فحسب، الأولي مضافا إليها "الجنات" علي النسب: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (107) سورة الكهف، والثانية منفردة: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (11:10) سورة المؤمنون. وهذا يقتضي فهم الفردوس بأنها علم على موضع متميز في قلب الجنة يرثه الأخيار من عباد الله الذين اكتملت فيهم صفة المؤمن علي ما تعرف من أشراطها في أول سورة المؤمنون، تحيط به جنات تنسب إليه - "جنات الفردوس" في سورة الكهف - يرثها المؤمنون الذين يعملون الصالحات بعامة، أي مطلق المؤمن، لا خيار المؤمن.

مصداق هذا التمييز بين " أصحاب اليمين" بعامة، وبين "السابقين المقربين"، أي الخيرة: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} (14:13) سورة الواقعة، ومصداقه أيضا في سورة الرحمن، تمييزا بين الجنتين اللتين لمن خاف مقام ربه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (46) سورة الرحمن، وبين الجنتين اللتين لمن دون هذا في المنزلة: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} (62) سورة الرحمن، أي لعموم المؤمن.

*******

والقائلون بعربية الفردوس يشتقونها من " الفردسة" ، أي التوسعة والتعريش، من فردس الكرم أي وسعه وعرشه، وفردس قرنه يعني صرعه، وفردس وعاء التمر ونحوه يعني حشاه وغلا في حشوه، ورجل فرادس يعني ضخم العظام، والفردوس بضم الفاء الزيادة والسعة في الحنطة ونحوها. وهذا كله يقطع ما بين اشتقاق "الفردوس" في العربية وما بين اشتقاق "براذيسو" اليونانية و "بيري+ديزا" الفارسية ومعناها السور أو الحائط : العربية من الضخامة والسعة والبسط، والأعجمية من التسوير والإحاطة.

"فردوس" العربية كما تري جذر رباعي. والمادة الرباعية في اللغات السامية ليست بالجذر الأصيل: إنها غالبا إما علي التضعيف مثل" زل+ زل"، وإما ثلاثي زيد بحرف مثل "خثر+م" بمعنى غلظ الشفة أو طرف أرنبة الأنف (وخثر بمعنى غلظ)، وإما مزجي يجمع بين معنيين مثل "دح + رج" أي دفعة متحدرا، من الدحي والرجرجة.

أصل "فردس" إذن إما "فرد+س" من فرد بمعنى نثر وفرق وباعد مزيدا بالسين علي المبالغة، كما في "قسط+ س"، وإما أن تكون علي المزجية "فر+دس" من الفراهة والدياسة، أو من الفره والديسة. و"الديسة" معناها العشب الطري (وهي "ديشه" العبرية و "ديثه" الآرامية) ، ومعناها أيضا - الذي أعنيه هنا - الغابة الكثيرة الشجر. وقد علمت أن "الجنة" في اللغة معناها الحديقة ذات النخل والشجر، من "جنه" يعني ستره، فالديسه بهذا المعنى تكافئ الجنة. وأما "فره" من الفراهة فمعناها جمل وحسن. وأما الفر والفرة ( من الجذر ف/ر/ر) فهو خيار الشئ. فيكون معنى الفردوس "خيار الجنة " وقد عرف العرب" الفردوس" " الفراديس" قبل القرآن ، يطلقونها علي بساتين الكرم خاصة ، ومنه "فراديس الشام"، ومنه أيضا قوله أمية بن أبي الصلت في عجز بيت له: "فيها الفراديس والفومان والبصل" . ولأن "الكروم" هي " أكرم" البساتين عند العرب- وليس مصادفة أن يشتق الكرم من الكرم أو العكس – فقد شاع " الفردوس" علي بساتين الكرم خاصة، وإن كان المعجم العربي يطلقه علي "البستان الجامع لكل ما يكون في البساتين".

أما "برديس" العبرية، فالمعجم الحديث لألفاظ التوراة" هملون هحداش لتناخ" يعرفها دون تأصيل بأنها "جان عصي بري (جدور)" ، أي "جنة الشجر المثمر (مسورة)"، فلا تدري كيف أقحم "التسوير" علي اللفظ إلا إذا كان قد تأثر بلفظ "براذيسو" اليونانية بمعنى السور أو الحائط، المنسوبة إلي المسيح عليه السلام في إنجيل لوقا، وليس في "براذيسو" من الشجر المثمر شئ، رغم أن "جان" العبرية تفيد بذاتها التسوير والستر.

إن صحت نسبة " براذيسو" اليونانية إلي المسيح عليه السلام في إنجيل لوقا، فالراجح عندي أنه عليه السلام نطقها علي العبرانية "برديس" ، التي ترد آخر الأمر إلي العربية "فردوس"، لا حاجة به إلي اصطناع "براذيسو"، التي جاء بها لوقا في إنجيله - لا علي الترجمة كما يظن - وإنما علي الرسم "اليوناني"، شأنها شأن كثير من ألفاظ الإنجيل العبرية - الآرامية.

لا يحتاج المسيح إلي "براذيسو" اليونانية وعنده "برديس"، وإنما احتاج إليها لوقا اليوناني. ولا يحتاج القرآن إلي "براذيسو" اليونانية، فليس " الفردوس" في القرآن سورا أو حائطا، وليس بستانا كأي بستان. ولا يحتاج القرآن من باب أولي إلي "برديس" العبرية ولديه العربية "فردوس"، خيار الجنة.

*******

أما مفسرو القرآن (راجع تفسير القرطبي للآية 107 من سورة الكهف والآية 11 من سورة المؤمنون)، فهم يجمعون علي عربية " الفردوس" من فردسه" بمعنى وسعه وعرشه. وشذ بعضهم فقال بل هي يونانية (علي ما مر بك من معنى "براذيسو" )، أو هي فارسية (علي ما مر بك من إرجاع "براذيسو" الإنجيلية إلي "بيري+ديزا" الفارسية). وهذا يدلك علي أن "براذيسو" و "بيري+ديزا" وقعتا في كلام الفرس والروم علي السواء عصر تصنيف تفاسير القرآن. ولم يصب هؤلاء فيما قالوه - وتوكأ عليه من بعد أدعياء الاستشراق في العصر الحديث- لأن جعل "الفردوس" بمعنى الجنة أو البستان يصطدم بقوله عز وجل في سورة الكهف "جنات الفردوس" التي تؤول علي هذا القول إلي "جنات الجنة" أو "جنات البستان" ، وهو لغو يتنزه عنه القرآن ، لأن إضافة الشئ إلي مرادفه لا تصح إلا بزيادة في معناه.


(4) عدن

عدن بالمكان عدنا يعني أقام. وعدن البلد يعني توطنه، لا يريم ولا يبرح. فــ"جنات عدن" يعني "جنات إقامة".
مصداق هذا قوله عز وجل: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} (3) سورة الكهف. ودفع عز وجل مظنة السأم من هذا التأبيد وإن كان في الجنة بقوله في ختام السورة: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (108) سورة الكهف. إنها جنة المأوى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (15:14) سورة النجم، {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (19) سورة السجدة، وهي دار المقامة: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ} (35) سورة فاطر، وجنة الخلد: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا} (15) سورة الفرقان {جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} (15) سورة الفرقان، ودار الخلود: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (34) سورة ق.

وردت "عدن" في كل القرآن إحدى عشر مرة. وهى لا تجئ قط في القرآن منفردة، وإنما تجئ تسبقها "جنات" على الإضافة التي تفيد النعت، أي جنات يعدن بها. لا رحيل ولا براح.

ولم تجئ قط في القرآن "جنة عدن" علي إفراد لفظ "الجنة" ، لأن مفرد "الجنة" معرفاً بالألف واللام، علم بذاته على دار النعيم في الآخرة بكل درجاتها، فردوسا وغير فردوس: إنه اسم جنس لمجموع "الجنات" التي في تلك الدار، يختص فيها كل مؤمن بجنته. ولأن الجنس لا يكون إلا مفردا، فلم يقل القرآن "جنة عدن" علي الإفراد، كي لا يظن أن "جنة عدن" اسم جنس لمطلق الجنة، كما وهم سفر التكوين، وكي لا يظن أن "جنة عدن" - كالحال في " فردوس" - جنة متميزة عما دونها من الجنات، كما تري إسرائيليات دست علي تفاسير القرآن، بل الجنات كلها جنات عدن على سواء، أي جنات إقامة، فردوسا وغير فردوس: إنها {دَارَ الْمُقَامَةِ} (35) سورة فاطر، {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (108) سورة هود.

ومن إعجاز القرآن، بل ومن دقيق القرآن أنه في حديثه عن قصة آدم لا يسميها قط - علي خلاف سفر التكوين - "جنة عدن"، لأنها لم تدم لآدم. وهذا يدلك علي أن "عدن" ليست وصفا للجنة بذاتها، لا علي النسب إلي إقليم أرض كما وهم سفر التكوين، ولا بمعنى النعمة والتنعم من "عدن" العبري المأخوذ من "غدن" العربي، كما قال علماء العبرية من بعد، فقد كانت الجنة لآدم وزوجته نعيما أي نعيم: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} (35) سورة البقرة، ولكن "عدن" وصف لدوام الحال في تلك الجنة، فلا توصف به إقامة آدم فيها قبل إهباطه منها، وإنما توصف به الإقامة في تلك الجنة لما حقت له الجنة في الدار الآخرة، ليطمئن القلب إلي أنها إقامة خالدة لا تزول، كما زالت من قبل عن آدم، وإيناسا لآدم نفسه بعد أن تاب الله عليه كي يخرج منها علي رجاء العودة إليها خالدا فيها لا يخشى الخروج منها كرة أخرى.

إلي هذه الجنة "الدائمة" الخالدة، دعا آدم أبناء جيله، وتحدث بها من بعده أبناؤه وذريته أجيالا بعد أجيال، حثاً علي طلب الجنة التي لا تزول، حتى التصق النعت بالمنعوت، فصار في العبرية الأولى "جان عدن"، نقلا عن العربية الأم - أعني عربية آدم وبنيه - أي "جنة المقامة"، علما علي مطلق تلك الجنة.

ولكن العبرية علي عصر سفر التكوين تخلط بين العين والغين، أي بين "عدن" ، "غدن" ، تكتبهما وتنطقهما سواء بالعين غير منقوطة. وقد سقط من المعجم العبري "عدن" بمعنى أقام، وبقيت فيه "عدن" بمعنى "غدن" العربي، أي خصب ولان ونعم، ففهمها الكاتب بهذا المعني، وراح كدأبه يلتمس لها التفاسير، حتى استقام له إسقاط تلك الجنة من السماء إلي الأرض، ينسبها إلي موضع في ذلك الإقليم الخصيب في العراق، إقليم "عدن"، وفاته ما كتبه هو نفسه (تكوين 3/22-24) من أن الله عز وجل خشي أن "يغافله" آدم إلي شجرة الحياة في "جان عدن" بعد طرده منها، فأقام علي تلك الجنة حرساً يمنعونه من دخولها، فكيف عاد إليها أبناء آدم الذين سكنوا إقليم "عدن" يحرثون ويزرعون ويأكلون ويتناسلون؟

شرط الوحي" الصادق" ألا تكذبه السنون: لم تعد علي أرض هذا الكوكب، لا في العراق ولا في غيره، بقعة أرض لم تزر إن لم تعمر، ناهيك بأرض تمنع الملائكة الناس أن يطأوها. فهل غافل الإنسان الملائكة من بعد، أم حرمت الجنة علي آدم، وأبيحت من بعد لبنيه.

أما علماء العبرية الذين قالوا من بعد أن "جان عدن" يعنى "جنة النعيم"، فليس بشئ، لأن سفر التكوين يضع الجنة "في عدن شرقا" ، وينص تنصيصا علي "جان بعدن"، أي جنة في عدن ( والباء في العبرية تكافئ "في" العربية). ليست " عدن" في سفر التكوين من أسماء المعاني، وإنما هي بيقين لا يصح فيه جدل اسم موضع ، كيفما اخترت له الأرض والموقع.

*******

(الذي يجب التذكير به هنا أن أدعياء الاستشراق هؤلاء - معظمهم إن لم يكن جميعهم - دلفوا إلى المعجم العربي مثقلين بما حملوه من عبرية التوراة، يفسرون العربي بالعبري علي قدر محفوظهم من تلك العبرية التي انقرضت أو غابت أصول جذورها تحت ركام من تفاسير وضعت بعد نحو ألف سنة من عصر موسى عليه السلام، تخطئ وتصيب. في وهمهم أن العبرية أقدم وجودا من العربية لمجرد أن التوراة أقدم نزولا من القرآن. وقد لغوا بهذا وسكنت إليه نفوسهم لأنه يفيدهم في دعوي استنساخ القرآن من التوراة، وهي دعوى لا يقول بها إلا هازل، جاهل بالقرآن وبالتوراة. وقد تظاهرت الآن علوم اللغات والتاريخ والآثار علي أن اللغة العربية هي أم الساميات جميعا، إليها يرد علم ما باد وانقرض في تلك اللغات السامية، ومنها يؤخذ تفسير ما غمض فيها، أو شحب معناه، أو فقد جذوره. ومضي عصر كان ينظر فيه إلى أولئك المستشرقين نظرة الهيبة والإكبار، يؤخذ عنهم ويتتلمذ عليهم دون نقد أو تمحيص، الغث والسمين. نقول هذا دون أن نقلل من جهدهم الضخم، وكان أولى بنا أن نقوم به نحن، فنأمن الهوى والضلال.)


... يتبع