الأحد، ٢٩ أبريل ٢٠٠٧

طرق تفسير الأعلام الأعجمية في القرآن

السلام عليكم

في هذا المقال نكمل الجزء الأخير من مقدمة كتاب “من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن” وفيه نوضح من أسلوب القرآن الكريم في تفسير الأعلام الأعجمية ومنهج الكاتب في تحري هذه المعاني وتفسيرها بلغة أقوامها وفي المقالات القادمة نعرض تفسير الأسماء بالتفصيل إن شاء الله....

مع تحياتي




من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

طرق تفسير الأعلام الأعجمية في القرآن
****


للقرآن في تفسير علمه الأعجمي طرائق شتى، وقع لي بفضل من الله ونعمة استظهار ست منها وهي :
1- التفسير بالتعريب (ومثاله” ميكال”)
2– التفسير بالترجمة (ومثاله “ذو الكفل”)
3– التفسير بالمرادف( ومثاله “موسى”)
4- التفسير بالمشاكلة (ومثاله “زكريا”)
5- التفسير بالمقابلة (ومثاله” عاد”)
6- التفسير بالسياق العام( ومثاله “لوط”).

وقد تجمتع في تفسير علم واحد أكثر من أداة ، فيفسر مرة بالترادف، ويفسر أخري بالسياق العام، الخ .، بنفس المعني أو بقريب منه.

*****

أما التفسير بالتعريب فهو تعريب العلم الأعجمي علي وزن عربي يفيد بذاته أصل معناه في لغته.
من ذلك أن القرآن في “ميكائيل” (وتنطق كافها في العبرية خاء لتقدم الياء عليها كما مر بك) لا يعربها علي “مكئال”، ولا علي “مكئيل” ولا علي “مئكال” ، وإنما يعربها علي “ميكال”، فيصيب التعريب ويصيب المعني في آن واحد ، كما ستري. وشرط إمكان التفسير بالتعريب، اتحاد الجذر في اللفظين ، الأعجمي والمعرب. ولا يتسنى هذا إلا في لغتين من نفس الأسرة اللغوية، كما هو الحال في اللغتين العربية والعبرية.

ويتعين التنبيه إلي أن “التفسير بالتعريب” ليس هو التفسير بالترجمة: التعريب كما مر بك هو استبقاء اللفظ الأعجمي في صورته الأعجمية بعد تهذيبه علي مقتضي مخارج أصوات العربية وأوزانها ، من مثل “جيورجيوس” التي عربت إلي “جرجس” ، باستبقاء أحرف الاسم الصحيحة (ج- ر- ح- س) والاستغناء عما عداها، فاستقام نطقه علي وزن عربي، أي أصبح الاسم الأعجمي عربيا بصورته، وإن بقي أعجميا بمعناه ، إذ لا معني للفظ “جرجس” في العربية، لأن اللغتين اليونانية والعربية ليستا من نفس الأسرة اللغوية، فلا تفهم معني “جرجس” إلا أن يقال لك إن أصلها في اليونانية “جيورجيوس” وأن معني “جيورجيوس” هذه في اليونانية “الحارث” ، أعني أنك في التعريب تبقي محتاجا إلي من “يترجم” لك، أما إن ترجمت الاسم العلم إلي معناه في لغتك ، غير عابئ بأصل صورته في لغته، كأن تسمي “جيورجيوس” باسم “الحارث” مباشرة فقد أصبت “المعنى” وفاتك” المبنى”، وينتج عن هذا أن من يسمعك تقول “الحارث” لا يدري إن كنت تقصد رجلا عربيا اسمه الحارث، أم تقصد رجلا يونانيا اسمه “جيورجيوس” ترجمت أنت معناه إلي “الحارث”.
من ذلك في القرآن “ذو الكفل” ، الذي لا خلاف علي عربيته مبني ومعني ولا مجال لاشتقاقه من العبرية أو الآرامية ، فتتوقف فيه : هل هو نبي عبربي لم تتحدث عنه التوراة ، أم هو علم من أعلام التوراة، نص القرآن علي معناه، ولم ينص علي مبناه، وسيأتي.

أما لماذا يعمد القرآن أحيانا إلي التفسير بالترجمة ويهمل التعريب ، فهذا إعجاز من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول “العلم”، أصل كل إعجاز في القرآن،
والوجه الثاني تحاشي التعريب حين تفيد الصورة التي يعرب عليها الاسم عكس معناه في لغته، مثل “يشوع” بمعني “الناجي” في العبرية (عيسى في القرآن) المعدول عن تعريبها “يسوع” (كما فعل المترجم العربي في الأناجيل اليونانية) لأن “يسوع” معناها في العربية “الهالك”.
وأما الوجه الثالث فهو خصيصة من خصائص لغة القرآن : تحاشي الوحشي وتحري الجمال. ولو علمت أصل “ذي الكفل” في التوراة لأدركت ما أعني، ولما جوزت فيه إلا الترجمة . وسيأتي.

التفسير بالتعريب والتفسير بالترجمة ، هو كما تري متضمن في بنية الاسم ذاته، معرباًَ أو مترجما، لا يحتاج من ثم إلي مزيد بيان، فلا يفسر بغيرهما من أدوات التفسير الست في القرآن: الترادف، والمشاكلة ، والمقابلة ، والسياق العام.

أما التفسير بالمرادف، فهو الإتيان بالعلم الأعجمي علي التجاور مع مرادف له في العربية يفيد معناه في لغة المتسمي به، كما رأيت من قبل في “ملك/رسول” وكما رأيت في “شيطان/عدو”. ولا يشترط في المرادف العربي أن يأتي علي صيغة إسمية تفسر معني العلم الأعجمي ، كما في “موسى” ، ومعناها في المصرية القديمة “وليد” ، تجدها في : {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (18) سورة الشعراء، وإنما قد يأتي المرادف أيضا علي صيغة جملة إسمية أو فعلية، كما في: { لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا َ} (9) سورة القصص، والمقصود في الحالتين “موسى” ، المحذوف لدلالة السياق عليه . وسيأتي . من ذلك أيضا “إسحاق” في قوله عز وجل : {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ } (71) سورة هود،

وفي ميلاد مريم عليها السلام: { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } (36) سورة آل عمران.

وكما في قوله عز وجل : {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } (43) سورة آل عمران وسيأتي بيان هذا كله في موضعه إن شاء الله .

وليس التفسير بالمرادف كالتفسير بالترجمة كما لعلك حدست: في التفسير بالمرادف يظهر العلم الأعجمي إلي جوار مرادفه العربي الدال علي معناه. أما في التفسير بالترجمة فالعلم الأعجمي يختفي تماما في كل القرآن، ولا يظهر في القرآن إلا باسمه العربي ترجمة، كما ستري في “ذي الكفل”.
أما التفسير بالمشاكلة، فهو ذلك الجناس المعجب الذي مر بك من قبل في قوله عز وجل : {كهيعص
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (1) سورة مريم ، بين “زكر” العبرية ، “ذكر “العربية ، لا فرق بينهما إلا إبدال الزاي العبرية ذالا، مع اتحاد المعني. إنه فرع من التفسير بالمرادف ، ولكنه ليس هو ، لاتفاق المرادف العربي مع مرادفه العبري في اللفظ والمعني، لا في المعني فقط. والتفسير بالمشاكلة ليس هو أيضا التفسير بالتعريب، لأن المفسر بالتعريب لا يظهر في القرآن إلا بصورته المعربة، كما في “ميكال”، أما المفسر بالمشاكلة، مثل “زكريا” فيظهر بصورته المعربة هذه، مفسرا بغيرها.

وأما التفسير بالمقابلة - والمقابلة هي “الطباق” عند أهل البديع- فهي الاتيان بالعلم الأعجمي مقابلا بعكس معناه، أي أنها عكس الترادف تماما. من ذلك في القرآن “عاد” قوم هود، وهي في العبرية- الآرامية من “الأبد” ، “الخلود” ، و” عدني” عبرياُ بمعني ما زلت وما أزال. ولكن القرآن يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} (51:50) سورة النجم، أي أنه سبحانه أزال الباقية الخالدة التي لا تزول ، فيفسرها بما آلت اليه . وسيأتي.

أما التفسير بالسياق العام فهو أنك تستخلص من سياق الآيات وصفا لبطل الحدث المروي في القرآن، يلابسه ويلازمه حتي تكاد تسميه به، وإذا هو نفسه معني اسمه العلم في التوراة.
من ذلك اسم “لوط” ومعناه بالعبرية “محجوب”، الذي تجده مفسراُ بالمقابلة في قوله عز وجل: {وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} (67-68) سورة الحجر.
ولكنك تجده أيضا مفسراً بالسياق العام أو الجو العام الذي توحي به إليك الآيات التي تصور لك لوطاً وهو “يراود” عن ضيفه ولا يملك ما يدافع به إلا أن يفتدي ببناته فلا يقبل منه، ويهمون به ليبطشوا به إلا أن يخلي بينهم وبين ضيفه هؤلاء ليفعلوا بهم ما أرادوا، ويجزع لوط أشد الجزع وقد غلب علي ضيفه فيتوجع: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (80) سورة هود ، ولكن ضيفه يهونون عليه : {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } (81) سورة هود، ولكن الملائكة المكرمين لا يحاجزون عن لوط، ولا يبطشون بالكفرة الفجرة ، فلم تحن بعد ساعتهم، بل يضربون بينه وبينهم بحجاب، فتغشي الذين ظلموا الظلمة : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } (37) سورة القمر فيحتجب منهم لوط كما تحتجب الملائكة ، ويضرب الليل بأستاره علي القرية المجرمة، ويمضي لوط في ساتر الليل متبعاً ما أمر به: { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} (81) سورة هود. لينجو بسحر : { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} (35-34) سورة القمر، ولا ينجلي الليل عن القرية إلا وقد صبحهم عذاب مستقر: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} (38) سورة القمر. وهلك الظلمة ردما وعميانا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}(72-74) سورة الحجر، هذا الحجاب المضروب علي لوط في إفلاته من بطش الذين كفروا، وفي فراره من القرية الظالم أهلها، حجاب باطنه من قبله الرحمة، وظاهره من ورائه العذاب ، ولذلك قيل له : {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } (65) سورة الحجر أي النجاء أمامك، وكل ما وراءك هالك ، فاجعل الوقم وراءك ، ولا تلتفت. هذا الجو العام، الذي توحيه الآيات ، سمة يتفرد بها القصص القرآني من دون كل قصص: الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخير ولكنه- علي خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل- يبعث لك من غياهب التاريخ حيا نابضا مشخصا، وإذا أنت في قلب الحدث، تسمع وتري، وقد طويت المسافات واستدار الزمن.

********

والذي يجب التنبيه إليه أن التفسير القرآني لأعلامه الأعجمية ، أيا كانت أداة التفسير المستخدمة ، تفسير به خفاء، ليس هو خفاء التطابق بين المفسر والمفسر به ، فالتطابق تام، ولكنه خفاء القصد ، لأن النسيج القرآني نسيج محكم، بالغ الإيجاز ، برئ من الحشو والافتعال، كل لفظ فيه موزون بميزان ، معناه مطلوب لذات معني الآية، واللفظة أو العبارة المفسر لمعني الاسم العلم جزء في هذا البنيان المتضام المتكامل، أو أداة لتصوير الحدث نفسه، لا لتفسير الاسم، فلا تفطن إن كنت لا تعرف لغة الاسم العلم لوجه “التناسب” بين المفسر والمفسر به، أو لوجه المشاكلة بين هذا وذاك، كما تجد في تفسير اسم “إسحاق” بقوله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ } (71) سورة هود، فالعبارة هنا تعطيك وقائع الحدث المروي عليك بالكلمة والصورة باختصار بليغ اقتضي من كتبة التوراة عدة أسطر، دون أن يلم “سفر التكوين”(تكوين 18/9-15) بكل ما ألمت به تلك الألفاظ الخمسة من سورة هود، فقد سقط منها علي سبيل المثال اسم المبشر به “إسحاق” فتنتظر إلي الإصحاح 21(2-5) كي تعلم أن إبراهيم هو الذي سمي ابنه “إسحاق”، وان امرأته سارة قالت في تفسير الاسم :” قد صنع إلي الله ضحكا. كل من يسمع يضحك لي” . ولكنك أمام تلك الألفاظ الخمسة في القرآن بمحضر من مشهد متكامل: تري سارة قائمة تخدم ضيف إبراهيم، وتفهم بغير كلام أن الضيف ( وهم وفد من الملائكة صلوات الله عليهم) قالوا شيئا ما يتعلق بسارة رضي الله عنها، ضحكت له عجبا وحياء، فأعيد عليها القول، فتفهم أن الذي قالوه قد كان بشارة بالمحال وقوعه لعجوز عقيم أيأستها السنون، وكأن الملائكة قالوا: “ضحكت يا أم ضحاك؛”، تسمية من الملائكة للمولود المبشر به، ولكنك لا تفطن لوجه التناسب بين “ضحكت” و “إسحاق” ، لأنك لا تعلم أن “إسحاق” هي “ضحاك” ، كما لا تفظن لوجه المشاكلة في عبارة من مثل: أحسنت يا حسن؛ إن قيلت لك بالانجليزية هكذا : "'Well-done, Hassan".

ولكنك علمك بلغة الاسم العلم لا يكفي وإن كان شرطا أول ، لأن القرآن لا يفسر لك أعلامه الأعجمية بمثل تلك الصورة المباشرة الفجة: أحسنت يا حسن؛ فلا يقول لك مثلا: “وامرأته قائمة فضحكت ولذا سمينا “إسحاق” ، حتي يستثار فضولك إلي معرفة معني “إسحاق” في لغة إبراهيم وسارة ، ولا يقصد إلي التفسير قصدا كما فعل كتبة التوراة، فيخطئ الكاتب ويصيب، كما رأيت في تفسير اسم حواء الذي تصدي الكاتب لتفسيره فقال: “ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي” (تكوين 3/20) ، يريد أن اسمها أخذ من “الحياة” : ( وإن كان آدم أول الأحياء من البشر كما تعلم). القرآن لا يعلل لك تسمية إسحاق بضحك سارة، فضحكها واقع وقع، وجزء لا يتجزأ من صور الحدث المروي عليك، ملتحم بالمعني العام للآية، لا حشو ولا افتعال، ولا خروج عن قصد، بل تاتي العبارة سلسلة، ويجئ “إسحاق” في موضعه، غير مقحم ، فتظن أنت أن التفسير عارض عرض، بعد علمك بأن “إسحاق” هي “ضحاك”، لا مدخل له البتة في مقصود الآية، فلا تلتفت إليه. ولكن هذا الذي لا تلتفت إليه يتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن. فتتساءل أمقصود هو أم غير مقصود؟ أم أنه الإعجاز البياني الذي يؤلف بين الألفاظ والصور علي هذا النسق المتناغم المتجانس لا يراد منه إلا هذا؟

وأنا لا أقول إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل، وإنما الذي أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها: إنه دليل العلم، ودليل القدرة.

*****

ثمة محاذير في تفسير معني العلم الأعجمي من القرآن وبالقرآن، وأهم هذه المحاذير ألا تقع فيما وقع فيه بعض قدامي المفسرين ، كأن تقول إن “يوسف” من الأسف ، معتلا بالمشاكلة والتجاور بين اللفظين في قوله عز وجل علي لسان يعقوب: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } (84) سورة يوسف، دون أن تمحص معني “يوسف” من العبرية نفسها ، وكأن “يوسف أصلها “يؤسف” لأن يوسف كان سببا في أسف أبيه. هذه تخريجات لا تفيدك شيئا، لأن “أسف” العربية ليست بالضرورة جذرا مشتركا بين اللغتين، بل هي بالأحري من جذر عربي آخر لحقه القلب والإبدال: إنها في العبرية من “ضفا” العربية بمعني نما وكثر، وهي أيضا من ضاف/يضيف العربية بمعني أماله إليه وضمه وأضافه، وأيضا آواه واستضافه. وهذا كله لا صلة له بالأسف الذي تعنيه مادة” آسف” العربية.

والذي أقصده من هذا ألا تتلمس معني العلم الأعجمي مستدلا عليه بقرينة التجاور وحدها ، فالتجاور ليس هو بالضرورة “الترادف” ، وإلا خبطت خبط عشواء فظننت أن “إسحاق” بمعني” العلم” في اللسان العبراني، مستدلا علي ذلك بتواتر وصف “إسحاق” بالعلم في القرآن مرتين: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (53) سورة الحجر، ، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } (28) سورة الذاريات- يريدون إسحاق. هذا عبث لايليق ببحث جاد، ولغو لا يصح في كتاب الله عز وجل.

وإنما الصحيح أن تؤصل أولا معني العلم الأعجمي في لغته، ثم تتلمس هذا المعني نفسه في الآيات من القرآن التي تتحدث عن هذا الإسم، مصرحا به، أو مكني عنه، أو محذوفا لدلالة السياق عليه ، وأنا زعيم لك بأنك ستجد هذا المعني في كل علم، مرة واحدة علي الأقل، وهذا كاف. وحبذا لو تواتر هذا الترادف في أكثر من موضع، إذن لاستبان لك أن هذا الترادف لم يأت عرضا.

وحبذا أيضا لو أتيح لك ترجمة تلك الآية من القرآن إلي لغة ذلك الاسم العلم، كي يتجلي لك كالشمس سطوعا تطابق اللفظين في تلك اللغة: الاسم العلم ومعناه. من ذلك قوله عز وجل : {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } (69) سورة يوسف، وترجمتها الحرفية بالعبرية هي : “ويبؤو إل يوسف ويوسف إلاو أحيو”، ومرة أخري في قوله عز وجل : {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } (99) سورة يوسف، وترجمتها العبرية هي :” ويبؤو إل يوسف ويوسف إلاو أبوتاو” . في الترجمة العبرية (والترجمة من عندي فلا ذكر لهذا في التوراة العبرانية ) تجد لفظة” يوسف” مكررة علي التلاصق - يوسف ويوسف - الأولي هي الاسم العلم يوسف عليه السلام، أما يوسف الثانية فهي فعله (ترجمة”آوي” : فلما دخلوا علي يوسف آوي إليه) فتستخلص أن القرآن يدلك علي معني اسم” يوسف” عليه السلام بفعل صدر منه- الإيواء والاستضافة- كان بحق محور دوره عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل، وكأن الاسم يلخص لك هذا الدور أصدق تلخيص: كان يوسف لبني اسرائيل في مصر نعم” الآوي- المضيف”.

ولكن علماء التوراة – وعلماء العبرية أيضا- يرون أن “يوسف” مشتق من جذر عبري آخر هو “سيف” الذي يفيد الإضافة بمعني الزيادة ، ولا يفيد الإضافة بمعني” الضيافة” ، فهو عندهم بمعني “يزيد” ، ربما لأن أم يوسف قالت في سفر التكوين وهي تضعه إنها يوسف و “يزيدها” الله ابنا آخر. نعم، قد استجيبت دعوة راحيل فولدت ليعقوب وهي تجود بنفسها ابنا آخر هو” بنيامين” ( أي ابن اليمن والسعد)، وكأنها وهي تسمي يوسف تريد معني يزيد. وليس لنا بالطبع- ولا لعلماء التوراة أيضا- ادعاء العلم بمقصد راحيل رضي الله عنها من تسمية مولودها “يوسف” – إن صح أنها هي التي سمته ولم يسمه أبوه - وإنما الذي يعنينا من الاسم منطوقه ودلالته: النطق علي المعنيين (يزيد، يستضيف) في العبرية واحد، ولم يتسم باسم يوسف من العبرانيين قبل يوسف بن يعقوب أحد، ودلالة الاسم علي مسماه تصح بالمعني الذي تستخلصه من القرآن (يستضيف) ولا تصح بالمعني الذي يريده علماء التوراة (يزيد) ، لأن “يوسف” لم يكن أكثر الأسباط ألاثني عشر نسلا، ولكنه كان وحده لبني اسرائيل جميعا الآوي المضيف، والتسمية علي قصد النبوءة منتشرة كما تعلم في أعلام التوراة (أو في سفر التكوين علي الأقل)، لا يكاد يخلو علم من النص علي أن التسمية تنظر إلي ما سوف يؤول إليه، والذي أفسر لك به اسم “يوسف” الآن مفيد لعلماء التوراة في هذا الباب، ولكنهم لم يفطنوا إليه.

ويعنينا أيضا في هذا المقام التنبيه علي محذور ثان، وهو فرط الوثوق بما ورد في نصوص التوراة من تفاسير تبرر التسمية، فليست هذه التبريرات جزءا من وحي الله علي رسله، وإنما هي اجتهادات الكاتب الذي يخطئ ويصيب، بعض هذه الاجتهادات متناقض مع نحو اللغة، فتحيل علي الله عز وجل أن يكون هو الموحي، وبعضه حشو مقحم يتعالم به الكاتب فيزل القلم، ويفتضح الجهل.

من ذلك ما تقرؤه في سفر التكوين (تكوين 11/1-9) من تفسير الكاتب لاسم مدينة “بابل” فيقول علي لسان الله عز وجل:” وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتي لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك علي وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دي اسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب علي وجه كل الأرض”.

تصدي الكاتب هنا لما لا يعرف فتردي في أخطاء جسيمة لا تصح من كاتب وحي: أخطأ في حق التاريخ، فظن أن أهل بابل كفوا عن بناء المدينة فلم يكتمل بناؤها، والواقع التاريخي أنها بنيت وحسن بناؤها، بل وكانت من أعظم مدائن التاريخ. وأراد تفسير ظاهرة اختلاف لغات البشر، فوقع في خطأ علمي بين، لأن الناس لا تتباين ألسنتهم فيتفرقون ، وإنما يتفرقون فتتباين الألسنة. ولم يكتف بهذا بل افتري علي الله عز وجل الغيرة من عباده الذين أتقنوا الصنعة ، فبدد شملهم كيلا يتموا ما بدأوه، (تكوين 3/22-24)

كما افتري علي الله من قبل الخشية من أن يغافله آدم، الذي “صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا (بعد أن أكل من شجرة المعرفة) ويأكل ويحيا إلي الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها . فطرد آدم وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة”.

وهذا كله أدخل في باب الأساطير والقصص الشعبي، لا يصح في جنب الله عز وجل، فتقطع بأن هذا النص من عند غير الله ، لا يلزمك. أما خطأ الكاتب في جنب اللغة، فقد توهم أن “بابل” من البلبلة، فبني علي هذا الوهم كل ما سبق. والصحيح أن “بابل” لفظة أكادية (أي بابلية- أشورية) أصلها “باب+ ايلو” تحورت في الآرامية إلي “باب + ايل”، أي “باب الله” ، وظنها الكاتب العبراني من الجذر العبري” بلل” بمعني خلط واختلط، ضعف كما في “زل”، “زلزل” العربية ، فصار” بلبل” ، ولكن كيف تأتي “بابل” من “بلبل”؟ لايستقيم هذا بالطبع في نحو اللغة، فيضطر علماء العبرية رغما عنهم من بعد هذا الكاتب إلي افتراض ما لايصح افتراضه، وهوأن بابل كان أصلها بلبل؛ كل هذا ولا يتوقف أحد ليتساءل : ولماذا يستعير البابليون اسما من العبرانية لمدينتهم؟!

عليك أن تكون من هذه التخريجات وأمثالها علي حذر، فليست لها حجية النصوص الموحي بها. تقطع بهذا آمنا مطمئنا، لأن نسبة الخطأ إلي الله عز وجل لا تصح. بل ينبغي لك أن تؤصل معني العلم الأعجمي في لغة صاحبه غير متأثر بتفاسير ساذجة أو مغرضة، كما رأيت من قبل في اختراع قصة زني لوط بابنتيه ليكون لهما نسل من ماء الأب (مو + آب) فيكون منه الموآبيون، تشنيعا علي قبال الموآبيين بعد أن قهروا بني إسرائيل، رغم أن الموآبيين أسبق وجودا علي الأرض من لوط وابنتيه. أو بتفاسير أملتها العقيدة من بعد.

كما تقرآ في إنجيل متي (متي 1/21-23): “فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذارء تحبل وتلد ابنا يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا “. فتفهم أن الكاتب يفسر لك هذا الاسم العبراني” يشوع “بأن معناه “المخلص” ، بل هذا هو ما تصر عليه كل المعاجم المسيحية، رغم تصادم الترجمة مع منطق اللغة العبرية، ولكنهم يقولون لك إن أصلها “يهي- يهي شوع “ اختزلت إلي “يشوع” ، فلا تفهم لماذا وكيف، ولا تفهم لماذا يتفرد عيسى عليه السلام بهذا التفسير المفتعل من دون كل “يشوع” قبله في بني إسرائيل وقد تسمي به كثيرون، ولا تفهم أيضا لماذا يستدل متي بنبوءة النبي القائل بأن العذارء تحبل وتلد ابنا بدعون اسمه ”عما نوئيل” (الله معنا) وهو ينص في العبارة السابقة علي أن اسم المولود سيكون ”يسوع”، وقد كذبت النبوؤة بهذا المفهوم، إن ابن مريم عليهما السلام دعي بالفعل يسوع، ولم يدع عمانوئيل... أيريد “متي” أن يعرض بأن هذا المولود هو “الله” ، صار جسدا وحل” بيننا” كما قال يوحنا في انجيله (يوحنا 1/14)؟ وإذا كان هو الله فكيف “يخلص شعبه” كما قال متي آنفا؟ ألله شعب يختص به من دون البشر؟! إن صح هذا في عقيدة اليهود (شعب الله المختار) فهو لا يصح البتة في دين المسيح عليه السلام، الذي شدد النكير علي دعوي اختصاص”أبناء ابراهيم” بالخلاص، فقال إن الله عز وجل قادر علي أن يخلق من الحجارة أبناء لإبراهيم، ولكن “متي” كما تعلم يهودي تنصر. إلي هذا ومثله يفضي التفسير بالهوي والتفسير بالعقيدة، أو التفسير بغير علم، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل اسم عيسى عليه السلام في موضعه.

أما المحذور الثالث، فهو أن تظن أن أعلام التوراة والإنجيل جميعا أعلام عبرانية، تفسر بالعبرية وحدها، غير ملتفت إلي الإطار الجغرافي التاريخي لصاحب الاسم العلم. فأنت لا تتصور مثلا أن يلتقط آل فرعون موسى من اليم، ثم يتكلفون تسمتيه تسمية عبرانية “موشيه” يمعني “اللقيط” (أو الممسو من الماء) وإنما المنطقي أن يتحدث آل فرعون فيما بينهم بالمصرية القديمة، فيسمون الذي عثروا عليه في التابوت باسم مشتق من لغتهم هم، ولا ينتظرون حتي تسميه أخته” التي قصته”، أو أمه التي صارت مرضعا له.

ولا تظن أيضا أن أم موسى رضي الله عنها ألهمت تسميته “موشيه” يوم وضعته أو يوم قذفت به في اليم، تفاؤلا بما سيكون من أمر التقاطه من الماء، لو صح هذا لما أخطأت التسمية، ولما قالت “موشيه” علي الفاعلية (أي الماسي)، بل لقالت “ماشوي” علي المفعولية (أي الممسو)، كي لا يحار من بعدها علماء العبرية في تعليل سبب التسمية علي زنة الفاعل، لا علي زنة المفعول. عليك إذن أن تلتمس للفظ” موسى” معناه في لغة “آل فرعون” ، وستجد أن أصله “مسو” ومعناها “وليد” . وسيأتي.

من ذلك أيضا اسم مريم أم عيسى عليهما السلام. تجدها في أصول الأناجيل اليونانية مرسومة MARIAM بفتح الميم والياء ( أي بنفس نطقها في القرآن ). كما تجدها أيضا في تلك الأناجيل اليونانية مرسومة أحيانا MARIA “ماريا” محذوفة الميم في آخرها، علي غير علة من “الإعراب” في اللغة اليونانية . ولكن أحدا لم يتوقف ليتساءل لماذا فتح كتبة الأناجيل اليونانية “ميم” مريم ولم يكسروها كما في “مريام” أخت موسى عليه السلام، بل أجمعوا علي أن مريم أم عيسى عليهما السلام سمية “مريام” أخت موسى (مكسورة الميم) التي يفسرونها في العبرية من “التمري”، “الامتراء” . بل ذهب أدعياء الاستشراق إلي أن القرآن، بقوله في سورة مريم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (27-28) سورة مريم، يخلط بين مريم أم عيسى ومريام أخت موسى وهارون ، بدلالة تقريعهم إياها في القرآن بعبارة” يا أخت هارون؛”، أي ما كان يليق بك هذا وأنت من أنت ، أخت هارون؛ وسيأتي تفنيد هذا في موضعه إن شاء الله عند تحليل اسم مريم عليها السلام. ولكن أحدا لم يلتفت إلي أن “الجليل” ، موطن مريم عليها السلام شمالي فلسطين، لم يكن عصر المسيح وقبله بثلاثة قرون علي الأقل يتكلم العبرية، بل كانت اللغة الفاشية علي ألسنة الناس هي “الآرامية “، بعد أن تورات عبرية التوراة في فلسطين منذ القرن الخامس قبل الميلاد، فلا تسمع إلا من حبر أو “رباني” (وهي ربوني” كما تقول الأناجيل) يقرآ من التوراة فلا يفهم منه إلا أن يفسر ما يقرؤه. وقد مر بك أن إصحاحات كاملة من سفر”عزرا” (القرن الخامس قبل الميلاد) كتبت بالآرامية مباشرة. كما تقرآ في سفر “نحميا” ( معاصر عزرا) ما يلي: “وقرآوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعني وأفهموهم القراءة” ( نحميا 8/8). وبهذه الارامية نفسها كان كلام المسيح عليه السلام مع عشريته وحوارييه.

ولابد أن تتوقع لهذه الآرامية تأثيرا في نطق الأسماء الأعلام، بل وفي صياغة الأسماء الأعلام، علي الأقل بالنسبة لأعلام المسيحية الورادة في الأناجيل ، فلا تستبعد أن “تبتكر” في بني إسرائيل عصر غلبة الآرامية علي ألسنة الناس، أعلام آرامية التركيب والصياغة يستشكل تفسيرها بالعبرية ، ولا يفهم معناها إلا أن ترد إلي الآرامية التي اشتقت منها . من ذلك اسم “مريم” بفتح الميم البادئة لا يصح أن تكون الأناجيل اليونانية في رسمها مفتوحة الميم، والإنصاف يقتضي منك – وتوجب نزاهة البحث عليك- ألا تبادر إلي تخطئة كتبة الأناجيل في “تهجئة “الأسماء الأعلام خاصة، قبل أن تلتمس لهم العلة، فقد كانوا- ومنهم خلصاء المسيح وحواريوه- ينطقون تلك الأعلام علي الوجه الذي به كتبت ، لاسيما والخط اليوناني لا يحتاج إلي الشكل والنقط، بل تكتب “مريم” مثلا: ما- ري – ام MARIAM، لا شبهة في فتح ميمها البادئة. فهي إذن غير “مريام” العبرية ، أخت موسى وهارون ، من المراء والمرية، ولا يجوز أيضا افتراض جواز كسر الميم وفتحها في “مريام” العبرية ، لأن هذا غير جائز في نحو تلك اللغة. ولا يصح افتراض أنهم “لحنوا” في نطق “مريام” العبرية بتأثير “آرامي” لأن الآرامية لا تفتح مكسورا في العبرية، وإلا لفتحوا ياء “يشوع” اسم المسيح عليه السلام، وهو اسم عبري خالص، تسمي به قبله في بني إسرائيل أعداد لا تحصي . وإنما الذي يصح منك هو افتراض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، لا شأن لك بمريام أخت موسى وهارون.

ونحن في هذا البحث نفترض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، مفتوح الميم، لأنه لا يصح لدينا وجه في تفسير معناه إلا بافتراض آراميته. وهو عندنا اسم مزجي، مركب من عنصرين آراميين: “ماري + أما “، سهلت همزته، ثم رخم ، فأصبح “ماري+ م “، أي “مريم” (قارن “فاطمة” العربية التي ترخم “فاطم” ) . أما “ماري” فمعناها بالآرامية فهي نفسها “أمة” العربية، مؤنث العبد، فهي عليها السلام “أمة الرب” . والذي يستوقف النظر أنها عليها السلام فسرت اسمها بهذا المعني نفسه فيما يرويه علي لسانها لوقا في إنجليه، ولم يفظن إليه من قارئي هذا الإنجيل أحد : “فقالت مريم هو ذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك. فمضي من عندها الملاك” (لوقا 1/38)، ولو ترجمت عبارة “أنا أمة الرب” إلي الآرامية ، لغة مريم وعشيرتها ، لجاز لك أن تقول باللسان الآرامي: أنا لـ “ماري” أما، أي أنا للرب أمة . أما القرآن فيقول : “يا مريم اقنتي لربك” ومعني القنوت في العربية كما يقول معجمك العربي هو “الإقرار بالعبودية لله“كما تقرأ في القرآن في مناسبة تسمية مريم قوله عز وجل: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } (36-37) آل عمران.

كانت أم مريم رضي الله عنهما في الآية 35 من سورة آل عمران قد نذرت ما في بطنها للرب محرراً، أي خالصا لعبادته عز وجل، أي للخدمة في المعبد ، عابداً متحنفا، وكانت ترجوه ذكراً تهبه لله، وسألته عز وجل أن “يتقبل منها”. وتنبئك الايتان 36و37 بأن المولود جاء أنثي علي خلاف رجائها فخشيت ألا تصح نذرها بأنثى فقالت “رب إني وضعتها أنثي” ، وكأنها حين فوجئت قالت، “أمة يا رب أمة؛” ، وهي بالآرامية : “ماري؛ أما ؛” ، ولكن العالم بما وضعت” تقبلها بقبول حسن”، فهو عز وجل هكذا أراد وقدر، ليخرج منها عيسى عليه السلام، المولود لغير أب، مولوداً من عذراء لا تزن بريبة، كما قال عز وجل : { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} (42) سورة آل عمران.

******

أما من حيث ترتيب تناولنا لتلك الأسماء الأعلام علما علما، فقد كانت أمامنا خيارات ثلاثة:
الخيار الأول: أن نتناولها بترتيب “ألقبائي” ، أي بترتيب أوائلها علي حروف المعجم العربي، فنبدأ بإبراهيم وننتهي بيحيي عليهما السلام مراعين ذات الترتيب في أحرف الاسم التالية للحرف الأول، فيجئ بعد إبراهيم “إبليس” وبعد “إبليس” آدم، وبعد آدم “آزر” ، الخ.
الخيار الثاني : وهو تناول الأعلام بترتيب نوعها، كان نبدأ بأعلام الذات ، ونثني بأعملا الجنس، وننتهي بأعلام الموضع.
الخيار الثالث: وهو تناول تلك الأعلام بترتيبها التاريخي، فنبدأ بالملائكة وآدم، وننتهي بعيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه علي ملائكته ورسله وأنبيائه ، غير مفرقين بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، بل يجئ كل في إطاره، فتجئ مثلا التوراة ومصر مع موسى، ويجئ هود مع عاد، وثمود مع صالح، وشعيب مع مدين والجودي مع نوح، والإنجيل مع المسيح بن مريم.

وقد آثرنا في هذا الكتاب الأخذ بالخيار الثالث الذي يتناول الأسماء الأعلام بترتيبها التاريخي، لأن الخيار الأول- الألفبائي- وإن كان ييسر رجوع القارئ إلي الاسم العلم بترتيبه “المفهرس” ، يعيبه أن ترتيب الأسماء الأعلام ترتيبا أصم علي حروف المعجم يقتطعها من إطارها الجغرافي- التاريخي- اللغوي، فتجئ توراة موسى العبرانية بعد إنجيل عيسى الآرامي اليوناني، ويجئ عيسى آخر أنبياء بني اسرائيل قبل نوح خليفة آدم، بل وقبل أمه مريم رضي الله عنها. أما الخيار الثاني الذي يفصل بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، فيعيبه أنه يقطع مثلا ما بين الإنجيل وصاحبه، وبين مدين ورسولهم ، وبين فرعون ومصر.

أما الخيار الثالث، الذي يحترم وحدة الأرض والتاريخ واللغة، ويراعي التسلسل التاريخي للأسماء الأعلام، فهو في رأينا أفضل الخيارات الثلاثة جميعا، لأنه يضع الاسم العلم علي أرضه، وبين معاصريه ، حياً مشخصا، يفسر بعضه بعضا كما سيأتي تفسير أعلام الجنس وأعلام الموضع في سياقها المناسب، أي في سياق تفسير أعلام الذوات المتصلة بها.



... يتبع


ليست هناك تعليقات: