الأحد، ٢٩ أبريل ٢٠٠٧

طرق تفسير الأعلام الأعجمية في القرآن

السلام عليكم

في هذا المقال نكمل الجزء الأخير من مقدمة كتاب “من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن” وفيه نوضح من أسلوب القرآن الكريم في تفسير الأعلام الأعجمية ومنهج الكاتب في تحري هذه المعاني وتفسيرها بلغة أقوامها وفي المقالات القادمة نعرض تفسير الأسماء بالتفصيل إن شاء الله....

مع تحياتي




من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

طرق تفسير الأعلام الأعجمية في القرآن
****


للقرآن في تفسير علمه الأعجمي طرائق شتى، وقع لي بفضل من الله ونعمة استظهار ست منها وهي :
1- التفسير بالتعريب (ومثاله” ميكال”)
2– التفسير بالترجمة (ومثاله “ذو الكفل”)
3– التفسير بالمرادف( ومثاله “موسى”)
4- التفسير بالمشاكلة (ومثاله “زكريا”)
5- التفسير بالمقابلة (ومثاله” عاد”)
6- التفسير بالسياق العام( ومثاله “لوط”).

وقد تجمتع في تفسير علم واحد أكثر من أداة ، فيفسر مرة بالترادف، ويفسر أخري بالسياق العام، الخ .، بنفس المعني أو بقريب منه.

*****

أما التفسير بالتعريب فهو تعريب العلم الأعجمي علي وزن عربي يفيد بذاته أصل معناه في لغته.
من ذلك أن القرآن في “ميكائيل” (وتنطق كافها في العبرية خاء لتقدم الياء عليها كما مر بك) لا يعربها علي “مكئال”، ولا علي “مكئيل” ولا علي “مئكال” ، وإنما يعربها علي “ميكال”، فيصيب التعريب ويصيب المعني في آن واحد ، كما ستري. وشرط إمكان التفسير بالتعريب، اتحاد الجذر في اللفظين ، الأعجمي والمعرب. ولا يتسنى هذا إلا في لغتين من نفس الأسرة اللغوية، كما هو الحال في اللغتين العربية والعبرية.

ويتعين التنبيه إلي أن “التفسير بالتعريب” ليس هو التفسير بالترجمة: التعريب كما مر بك هو استبقاء اللفظ الأعجمي في صورته الأعجمية بعد تهذيبه علي مقتضي مخارج أصوات العربية وأوزانها ، من مثل “جيورجيوس” التي عربت إلي “جرجس” ، باستبقاء أحرف الاسم الصحيحة (ج- ر- ح- س) والاستغناء عما عداها، فاستقام نطقه علي وزن عربي، أي أصبح الاسم الأعجمي عربيا بصورته، وإن بقي أعجميا بمعناه ، إذ لا معني للفظ “جرجس” في العربية، لأن اللغتين اليونانية والعربية ليستا من نفس الأسرة اللغوية، فلا تفهم معني “جرجس” إلا أن يقال لك إن أصلها في اليونانية “جيورجيوس” وأن معني “جيورجيوس” هذه في اليونانية “الحارث” ، أعني أنك في التعريب تبقي محتاجا إلي من “يترجم” لك، أما إن ترجمت الاسم العلم إلي معناه في لغتك ، غير عابئ بأصل صورته في لغته، كأن تسمي “جيورجيوس” باسم “الحارث” مباشرة فقد أصبت “المعنى” وفاتك” المبنى”، وينتج عن هذا أن من يسمعك تقول “الحارث” لا يدري إن كنت تقصد رجلا عربيا اسمه الحارث، أم تقصد رجلا يونانيا اسمه “جيورجيوس” ترجمت أنت معناه إلي “الحارث”.
من ذلك في القرآن “ذو الكفل” ، الذي لا خلاف علي عربيته مبني ومعني ولا مجال لاشتقاقه من العبرية أو الآرامية ، فتتوقف فيه : هل هو نبي عبربي لم تتحدث عنه التوراة ، أم هو علم من أعلام التوراة، نص القرآن علي معناه، ولم ينص علي مبناه، وسيأتي.

أما لماذا يعمد القرآن أحيانا إلي التفسير بالترجمة ويهمل التعريب ، فهذا إعجاز من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول “العلم”، أصل كل إعجاز في القرآن،
والوجه الثاني تحاشي التعريب حين تفيد الصورة التي يعرب عليها الاسم عكس معناه في لغته، مثل “يشوع” بمعني “الناجي” في العبرية (عيسى في القرآن) المعدول عن تعريبها “يسوع” (كما فعل المترجم العربي في الأناجيل اليونانية) لأن “يسوع” معناها في العربية “الهالك”.
وأما الوجه الثالث فهو خصيصة من خصائص لغة القرآن : تحاشي الوحشي وتحري الجمال. ولو علمت أصل “ذي الكفل” في التوراة لأدركت ما أعني، ولما جوزت فيه إلا الترجمة . وسيأتي.

التفسير بالتعريب والتفسير بالترجمة ، هو كما تري متضمن في بنية الاسم ذاته، معرباًَ أو مترجما، لا يحتاج من ثم إلي مزيد بيان، فلا يفسر بغيرهما من أدوات التفسير الست في القرآن: الترادف، والمشاكلة ، والمقابلة ، والسياق العام.

أما التفسير بالمرادف، فهو الإتيان بالعلم الأعجمي علي التجاور مع مرادف له في العربية يفيد معناه في لغة المتسمي به، كما رأيت من قبل في “ملك/رسول” وكما رأيت في “شيطان/عدو”. ولا يشترط في المرادف العربي أن يأتي علي صيغة إسمية تفسر معني العلم الأعجمي ، كما في “موسى” ، ومعناها في المصرية القديمة “وليد” ، تجدها في : {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (18) سورة الشعراء، وإنما قد يأتي المرادف أيضا علي صيغة جملة إسمية أو فعلية، كما في: { لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا َ} (9) سورة القصص، والمقصود في الحالتين “موسى” ، المحذوف لدلالة السياق عليه . وسيأتي . من ذلك أيضا “إسحاق” في قوله عز وجل : {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ } (71) سورة هود،

وفي ميلاد مريم عليها السلام: { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } (36) سورة آل عمران.

وكما في قوله عز وجل : {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } (43) سورة آل عمران وسيأتي بيان هذا كله في موضعه إن شاء الله .

وليس التفسير بالمرادف كالتفسير بالترجمة كما لعلك حدست: في التفسير بالمرادف يظهر العلم الأعجمي إلي جوار مرادفه العربي الدال علي معناه. أما في التفسير بالترجمة فالعلم الأعجمي يختفي تماما في كل القرآن، ولا يظهر في القرآن إلا باسمه العربي ترجمة، كما ستري في “ذي الكفل”.
أما التفسير بالمشاكلة، فهو ذلك الجناس المعجب الذي مر بك من قبل في قوله عز وجل : {كهيعص
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (1) سورة مريم ، بين “زكر” العبرية ، “ذكر “العربية ، لا فرق بينهما إلا إبدال الزاي العبرية ذالا، مع اتحاد المعني. إنه فرع من التفسير بالمرادف ، ولكنه ليس هو ، لاتفاق المرادف العربي مع مرادفه العبري في اللفظ والمعني، لا في المعني فقط. والتفسير بالمشاكلة ليس هو أيضا التفسير بالتعريب، لأن المفسر بالتعريب لا يظهر في القرآن إلا بصورته المعربة، كما في “ميكال”، أما المفسر بالمشاكلة، مثل “زكريا” فيظهر بصورته المعربة هذه، مفسرا بغيرها.

وأما التفسير بالمقابلة - والمقابلة هي “الطباق” عند أهل البديع- فهي الاتيان بالعلم الأعجمي مقابلا بعكس معناه، أي أنها عكس الترادف تماما. من ذلك في القرآن “عاد” قوم هود، وهي في العبرية- الآرامية من “الأبد” ، “الخلود” ، و” عدني” عبرياُ بمعني ما زلت وما أزال. ولكن القرآن يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} (51:50) سورة النجم، أي أنه سبحانه أزال الباقية الخالدة التي لا تزول ، فيفسرها بما آلت اليه . وسيأتي.

أما التفسير بالسياق العام فهو أنك تستخلص من سياق الآيات وصفا لبطل الحدث المروي في القرآن، يلابسه ويلازمه حتي تكاد تسميه به، وإذا هو نفسه معني اسمه العلم في التوراة.
من ذلك اسم “لوط” ومعناه بالعبرية “محجوب”، الذي تجده مفسراُ بالمقابلة في قوله عز وجل: {وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} (67-68) سورة الحجر.
ولكنك تجده أيضا مفسراً بالسياق العام أو الجو العام الذي توحي به إليك الآيات التي تصور لك لوطاً وهو “يراود” عن ضيفه ولا يملك ما يدافع به إلا أن يفتدي ببناته فلا يقبل منه، ويهمون به ليبطشوا به إلا أن يخلي بينهم وبين ضيفه هؤلاء ليفعلوا بهم ما أرادوا، ويجزع لوط أشد الجزع وقد غلب علي ضيفه فيتوجع: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (80) سورة هود ، ولكن ضيفه يهونون عليه : {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } (81) سورة هود، ولكن الملائكة المكرمين لا يحاجزون عن لوط، ولا يبطشون بالكفرة الفجرة ، فلم تحن بعد ساعتهم، بل يضربون بينه وبينهم بحجاب، فتغشي الذين ظلموا الظلمة : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } (37) سورة القمر فيحتجب منهم لوط كما تحتجب الملائكة ، ويضرب الليل بأستاره علي القرية المجرمة، ويمضي لوط في ساتر الليل متبعاً ما أمر به: { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} (81) سورة هود. لينجو بسحر : { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} (35-34) سورة القمر، ولا ينجلي الليل عن القرية إلا وقد صبحهم عذاب مستقر: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} (38) سورة القمر. وهلك الظلمة ردما وعميانا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}(72-74) سورة الحجر، هذا الحجاب المضروب علي لوط في إفلاته من بطش الذين كفروا، وفي فراره من القرية الظالم أهلها، حجاب باطنه من قبله الرحمة، وظاهره من ورائه العذاب ، ولذلك قيل له : {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } (65) سورة الحجر أي النجاء أمامك، وكل ما وراءك هالك ، فاجعل الوقم وراءك ، ولا تلتفت. هذا الجو العام، الذي توحيه الآيات ، سمة يتفرد بها القصص القرآني من دون كل قصص: الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخير ولكنه- علي خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل- يبعث لك من غياهب التاريخ حيا نابضا مشخصا، وإذا أنت في قلب الحدث، تسمع وتري، وقد طويت المسافات واستدار الزمن.

********

والذي يجب التنبيه إليه أن التفسير القرآني لأعلامه الأعجمية ، أيا كانت أداة التفسير المستخدمة ، تفسير به خفاء، ليس هو خفاء التطابق بين المفسر والمفسر به ، فالتطابق تام، ولكنه خفاء القصد ، لأن النسيج القرآني نسيج محكم، بالغ الإيجاز ، برئ من الحشو والافتعال، كل لفظ فيه موزون بميزان ، معناه مطلوب لذات معني الآية، واللفظة أو العبارة المفسر لمعني الاسم العلم جزء في هذا البنيان المتضام المتكامل، أو أداة لتصوير الحدث نفسه، لا لتفسير الاسم، فلا تفطن إن كنت لا تعرف لغة الاسم العلم لوجه “التناسب” بين المفسر والمفسر به، أو لوجه المشاكلة بين هذا وذاك، كما تجد في تفسير اسم “إسحاق” بقوله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ } (71) سورة هود، فالعبارة هنا تعطيك وقائع الحدث المروي عليك بالكلمة والصورة باختصار بليغ اقتضي من كتبة التوراة عدة أسطر، دون أن يلم “سفر التكوين”(تكوين 18/9-15) بكل ما ألمت به تلك الألفاظ الخمسة من سورة هود، فقد سقط منها علي سبيل المثال اسم المبشر به “إسحاق” فتنتظر إلي الإصحاح 21(2-5) كي تعلم أن إبراهيم هو الذي سمي ابنه “إسحاق”، وان امرأته سارة قالت في تفسير الاسم :” قد صنع إلي الله ضحكا. كل من يسمع يضحك لي” . ولكنك أمام تلك الألفاظ الخمسة في القرآن بمحضر من مشهد متكامل: تري سارة قائمة تخدم ضيف إبراهيم، وتفهم بغير كلام أن الضيف ( وهم وفد من الملائكة صلوات الله عليهم) قالوا شيئا ما يتعلق بسارة رضي الله عنها، ضحكت له عجبا وحياء، فأعيد عليها القول، فتفهم أن الذي قالوه قد كان بشارة بالمحال وقوعه لعجوز عقيم أيأستها السنون، وكأن الملائكة قالوا: “ضحكت يا أم ضحاك؛”، تسمية من الملائكة للمولود المبشر به، ولكنك لا تفطن لوجه التناسب بين “ضحكت” و “إسحاق” ، لأنك لا تعلم أن “إسحاق” هي “ضحاك” ، كما لا تفظن لوجه المشاكلة في عبارة من مثل: أحسنت يا حسن؛ إن قيلت لك بالانجليزية هكذا : "'Well-done, Hassan".

ولكنك علمك بلغة الاسم العلم لا يكفي وإن كان شرطا أول ، لأن القرآن لا يفسر لك أعلامه الأعجمية بمثل تلك الصورة المباشرة الفجة: أحسنت يا حسن؛ فلا يقول لك مثلا: “وامرأته قائمة فضحكت ولذا سمينا “إسحاق” ، حتي يستثار فضولك إلي معرفة معني “إسحاق” في لغة إبراهيم وسارة ، ولا يقصد إلي التفسير قصدا كما فعل كتبة التوراة، فيخطئ الكاتب ويصيب، كما رأيت في تفسير اسم حواء الذي تصدي الكاتب لتفسيره فقال: “ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي” (تكوين 3/20) ، يريد أن اسمها أخذ من “الحياة” : ( وإن كان آدم أول الأحياء من البشر كما تعلم). القرآن لا يعلل لك تسمية إسحاق بضحك سارة، فضحكها واقع وقع، وجزء لا يتجزأ من صور الحدث المروي عليك، ملتحم بالمعني العام للآية، لا حشو ولا افتعال، ولا خروج عن قصد، بل تاتي العبارة سلسلة، ويجئ “إسحاق” في موضعه، غير مقحم ، فتظن أنت أن التفسير عارض عرض، بعد علمك بأن “إسحاق” هي “ضحاك”، لا مدخل له البتة في مقصود الآية، فلا تلتفت إليه. ولكن هذا الذي لا تلتفت إليه يتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن. فتتساءل أمقصود هو أم غير مقصود؟ أم أنه الإعجاز البياني الذي يؤلف بين الألفاظ والصور علي هذا النسق المتناغم المتجانس لا يراد منه إلا هذا؟

وأنا لا أقول إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل، وإنما الذي أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها: إنه دليل العلم، ودليل القدرة.

*****

ثمة محاذير في تفسير معني العلم الأعجمي من القرآن وبالقرآن، وأهم هذه المحاذير ألا تقع فيما وقع فيه بعض قدامي المفسرين ، كأن تقول إن “يوسف” من الأسف ، معتلا بالمشاكلة والتجاور بين اللفظين في قوله عز وجل علي لسان يعقوب: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } (84) سورة يوسف، دون أن تمحص معني “يوسف” من العبرية نفسها ، وكأن “يوسف أصلها “يؤسف” لأن يوسف كان سببا في أسف أبيه. هذه تخريجات لا تفيدك شيئا، لأن “أسف” العربية ليست بالضرورة جذرا مشتركا بين اللغتين، بل هي بالأحري من جذر عربي آخر لحقه القلب والإبدال: إنها في العبرية من “ضفا” العربية بمعني نما وكثر، وهي أيضا من ضاف/يضيف العربية بمعني أماله إليه وضمه وأضافه، وأيضا آواه واستضافه. وهذا كله لا صلة له بالأسف الذي تعنيه مادة” آسف” العربية.

والذي أقصده من هذا ألا تتلمس معني العلم الأعجمي مستدلا عليه بقرينة التجاور وحدها ، فالتجاور ليس هو بالضرورة “الترادف” ، وإلا خبطت خبط عشواء فظننت أن “إسحاق” بمعني” العلم” في اللسان العبراني، مستدلا علي ذلك بتواتر وصف “إسحاق” بالعلم في القرآن مرتين: {قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (53) سورة الحجر، ، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } (28) سورة الذاريات- يريدون إسحاق. هذا عبث لايليق ببحث جاد، ولغو لا يصح في كتاب الله عز وجل.

وإنما الصحيح أن تؤصل أولا معني العلم الأعجمي في لغته، ثم تتلمس هذا المعني نفسه في الآيات من القرآن التي تتحدث عن هذا الإسم، مصرحا به، أو مكني عنه، أو محذوفا لدلالة السياق عليه ، وأنا زعيم لك بأنك ستجد هذا المعني في كل علم، مرة واحدة علي الأقل، وهذا كاف. وحبذا لو تواتر هذا الترادف في أكثر من موضع، إذن لاستبان لك أن هذا الترادف لم يأت عرضا.

وحبذا أيضا لو أتيح لك ترجمة تلك الآية من القرآن إلي لغة ذلك الاسم العلم، كي يتجلي لك كالشمس سطوعا تطابق اللفظين في تلك اللغة: الاسم العلم ومعناه. من ذلك قوله عز وجل : {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } (69) سورة يوسف، وترجمتها الحرفية بالعبرية هي : “ويبؤو إل يوسف ويوسف إلاو أحيو”، ومرة أخري في قوله عز وجل : {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } (99) سورة يوسف، وترجمتها العبرية هي :” ويبؤو إل يوسف ويوسف إلاو أبوتاو” . في الترجمة العبرية (والترجمة من عندي فلا ذكر لهذا في التوراة العبرانية ) تجد لفظة” يوسف” مكررة علي التلاصق - يوسف ويوسف - الأولي هي الاسم العلم يوسف عليه السلام، أما يوسف الثانية فهي فعله (ترجمة”آوي” : فلما دخلوا علي يوسف آوي إليه) فتستخلص أن القرآن يدلك علي معني اسم” يوسف” عليه السلام بفعل صدر منه- الإيواء والاستضافة- كان بحق محور دوره عليه السلام في تاريخ بني إسرائيل، وكأن الاسم يلخص لك هذا الدور أصدق تلخيص: كان يوسف لبني اسرائيل في مصر نعم” الآوي- المضيف”.

ولكن علماء التوراة – وعلماء العبرية أيضا- يرون أن “يوسف” مشتق من جذر عبري آخر هو “سيف” الذي يفيد الإضافة بمعني الزيادة ، ولا يفيد الإضافة بمعني” الضيافة” ، فهو عندهم بمعني “يزيد” ، ربما لأن أم يوسف قالت في سفر التكوين وهي تضعه إنها يوسف و “يزيدها” الله ابنا آخر. نعم، قد استجيبت دعوة راحيل فولدت ليعقوب وهي تجود بنفسها ابنا آخر هو” بنيامين” ( أي ابن اليمن والسعد)، وكأنها وهي تسمي يوسف تريد معني يزيد. وليس لنا بالطبع- ولا لعلماء التوراة أيضا- ادعاء العلم بمقصد راحيل رضي الله عنها من تسمية مولودها “يوسف” – إن صح أنها هي التي سمته ولم يسمه أبوه - وإنما الذي يعنينا من الاسم منطوقه ودلالته: النطق علي المعنيين (يزيد، يستضيف) في العبرية واحد، ولم يتسم باسم يوسف من العبرانيين قبل يوسف بن يعقوب أحد، ودلالة الاسم علي مسماه تصح بالمعني الذي تستخلصه من القرآن (يستضيف) ولا تصح بالمعني الذي يريده علماء التوراة (يزيد) ، لأن “يوسف” لم يكن أكثر الأسباط ألاثني عشر نسلا، ولكنه كان وحده لبني اسرائيل جميعا الآوي المضيف، والتسمية علي قصد النبوءة منتشرة كما تعلم في أعلام التوراة (أو في سفر التكوين علي الأقل)، لا يكاد يخلو علم من النص علي أن التسمية تنظر إلي ما سوف يؤول إليه، والذي أفسر لك به اسم “يوسف” الآن مفيد لعلماء التوراة في هذا الباب، ولكنهم لم يفطنوا إليه.

ويعنينا أيضا في هذا المقام التنبيه علي محذور ثان، وهو فرط الوثوق بما ورد في نصوص التوراة من تفاسير تبرر التسمية، فليست هذه التبريرات جزءا من وحي الله علي رسله، وإنما هي اجتهادات الكاتب الذي يخطئ ويصيب، بعض هذه الاجتهادات متناقض مع نحو اللغة، فتحيل علي الله عز وجل أن يكون هو الموحي، وبعضه حشو مقحم يتعالم به الكاتب فيزل القلم، ويفتضح الجهل.

من ذلك ما تقرؤه في سفر التكوين (تكوين 11/1-9) من تفسير الكاتب لاسم مدينة “بابل” فيقول علي لسان الله عز وجل:” وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتي لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك علي وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة. لذلك دي اسمها بابل. لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض. ومن هناك بددهم الرب علي وجه كل الأرض”.

تصدي الكاتب هنا لما لا يعرف فتردي في أخطاء جسيمة لا تصح من كاتب وحي: أخطأ في حق التاريخ، فظن أن أهل بابل كفوا عن بناء المدينة فلم يكتمل بناؤها، والواقع التاريخي أنها بنيت وحسن بناؤها، بل وكانت من أعظم مدائن التاريخ. وأراد تفسير ظاهرة اختلاف لغات البشر، فوقع في خطأ علمي بين، لأن الناس لا تتباين ألسنتهم فيتفرقون ، وإنما يتفرقون فتتباين الألسنة. ولم يكتف بهذا بل افتري علي الله عز وجل الغيرة من عباده الذين أتقنوا الصنعة ، فبدد شملهم كيلا يتموا ما بدأوه، (تكوين 3/22-24)

كما افتري علي الله من قبل الخشية من أن يغافله آدم، الذي “صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا (بعد أن أكل من شجرة المعرفة) ويأكل ويحيا إلي الأبد. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها . فطرد آدم وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة”.

وهذا كله أدخل في باب الأساطير والقصص الشعبي، لا يصح في جنب الله عز وجل، فتقطع بأن هذا النص من عند غير الله ، لا يلزمك. أما خطأ الكاتب في جنب اللغة، فقد توهم أن “بابل” من البلبلة، فبني علي هذا الوهم كل ما سبق. والصحيح أن “بابل” لفظة أكادية (أي بابلية- أشورية) أصلها “باب+ ايلو” تحورت في الآرامية إلي “باب + ايل”، أي “باب الله” ، وظنها الكاتب العبراني من الجذر العبري” بلل” بمعني خلط واختلط، ضعف كما في “زل”، “زلزل” العربية ، فصار” بلبل” ، ولكن كيف تأتي “بابل” من “بلبل”؟ لايستقيم هذا بالطبع في نحو اللغة، فيضطر علماء العبرية رغما عنهم من بعد هذا الكاتب إلي افتراض ما لايصح افتراضه، وهوأن بابل كان أصلها بلبل؛ كل هذا ولا يتوقف أحد ليتساءل : ولماذا يستعير البابليون اسما من العبرانية لمدينتهم؟!

عليك أن تكون من هذه التخريجات وأمثالها علي حذر، فليست لها حجية النصوص الموحي بها. تقطع بهذا آمنا مطمئنا، لأن نسبة الخطأ إلي الله عز وجل لا تصح. بل ينبغي لك أن تؤصل معني العلم الأعجمي في لغة صاحبه غير متأثر بتفاسير ساذجة أو مغرضة، كما رأيت من قبل في اختراع قصة زني لوط بابنتيه ليكون لهما نسل من ماء الأب (مو + آب) فيكون منه الموآبيون، تشنيعا علي قبال الموآبيين بعد أن قهروا بني إسرائيل، رغم أن الموآبيين أسبق وجودا علي الأرض من لوط وابنتيه. أو بتفاسير أملتها العقيدة من بعد.

كما تقرآ في إنجيل متي (متي 1/21-23): “فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان ليتم ما قيل من الرب بالنبي القائل هوذا العذارء تحبل وتلد ابنا يدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا “. فتفهم أن الكاتب يفسر لك هذا الاسم العبراني” يشوع “بأن معناه “المخلص” ، بل هذا هو ما تصر عليه كل المعاجم المسيحية، رغم تصادم الترجمة مع منطق اللغة العبرية، ولكنهم يقولون لك إن أصلها “يهي- يهي شوع “ اختزلت إلي “يشوع” ، فلا تفهم لماذا وكيف، ولا تفهم لماذا يتفرد عيسى عليه السلام بهذا التفسير المفتعل من دون كل “يشوع” قبله في بني إسرائيل وقد تسمي به كثيرون، ولا تفهم أيضا لماذا يستدل متي بنبوءة النبي القائل بأن العذارء تحبل وتلد ابنا بدعون اسمه ”عما نوئيل” (الله معنا) وهو ينص في العبارة السابقة علي أن اسم المولود سيكون ”يسوع”، وقد كذبت النبوؤة بهذا المفهوم، إن ابن مريم عليهما السلام دعي بالفعل يسوع، ولم يدع عمانوئيل... أيريد “متي” أن يعرض بأن هذا المولود هو “الله” ، صار جسدا وحل” بيننا” كما قال يوحنا في انجيله (يوحنا 1/14)؟ وإذا كان هو الله فكيف “يخلص شعبه” كما قال متي آنفا؟ ألله شعب يختص به من دون البشر؟! إن صح هذا في عقيدة اليهود (شعب الله المختار) فهو لا يصح البتة في دين المسيح عليه السلام، الذي شدد النكير علي دعوي اختصاص”أبناء ابراهيم” بالخلاص، فقال إن الله عز وجل قادر علي أن يخلق من الحجارة أبناء لإبراهيم، ولكن “متي” كما تعلم يهودي تنصر. إلي هذا ومثله يفضي التفسير بالهوي والتفسير بالعقيدة، أو التفسير بغير علم، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله عند تحليل اسم عيسى عليه السلام في موضعه.

أما المحذور الثالث، فهو أن تظن أن أعلام التوراة والإنجيل جميعا أعلام عبرانية، تفسر بالعبرية وحدها، غير ملتفت إلي الإطار الجغرافي التاريخي لصاحب الاسم العلم. فأنت لا تتصور مثلا أن يلتقط آل فرعون موسى من اليم، ثم يتكلفون تسمتيه تسمية عبرانية “موشيه” يمعني “اللقيط” (أو الممسو من الماء) وإنما المنطقي أن يتحدث آل فرعون فيما بينهم بالمصرية القديمة، فيسمون الذي عثروا عليه في التابوت باسم مشتق من لغتهم هم، ولا ينتظرون حتي تسميه أخته” التي قصته”، أو أمه التي صارت مرضعا له.

ولا تظن أيضا أن أم موسى رضي الله عنها ألهمت تسميته “موشيه” يوم وضعته أو يوم قذفت به في اليم، تفاؤلا بما سيكون من أمر التقاطه من الماء، لو صح هذا لما أخطأت التسمية، ولما قالت “موشيه” علي الفاعلية (أي الماسي)، بل لقالت “ماشوي” علي المفعولية (أي الممسو)، كي لا يحار من بعدها علماء العبرية في تعليل سبب التسمية علي زنة الفاعل، لا علي زنة المفعول. عليك إذن أن تلتمس للفظ” موسى” معناه في لغة “آل فرعون” ، وستجد أن أصله “مسو” ومعناها “وليد” . وسيأتي.

من ذلك أيضا اسم مريم أم عيسى عليهما السلام. تجدها في أصول الأناجيل اليونانية مرسومة MARIAM بفتح الميم والياء ( أي بنفس نطقها في القرآن ). كما تجدها أيضا في تلك الأناجيل اليونانية مرسومة أحيانا MARIA “ماريا” محذوفة الميم في آخرها، علي غير علة من “الإعراب” في اللغة اليونانية . ولكن أحدا لم يتوقف ليتساءل لماذا فتح كتبة الأناجيل اليونانية “ميم” مريم ولم يكسروها كما في “مريام” أخت موسى عليه السلام، بل أجمعوا علي أن مريم أم عيسى عليهما السلام سمية “مريام” أخت موسى (مكسورة الميم) التي يفسرونها في العبرية من “التمري”، “الامتراء” . بل ذهب أدعياء الاستشراق إلي أن القرآن، بقوله في سورة مريم: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (27-28) سورة مريم، يخلط بين مريم أم عيسى ومريام أخت موسى وهارون ، بدلالة تقريعهم إياها في القرآن بعبارة” يا أخت هارون؛”، أي ما كان يليق بك هذا وأنت من أنت ، أخت هارون؛ وسيأتي تفنيد هذا في موضعه إن شاء الله عند تحليل اسم مريم عليها السلام. ولكن أحدا لم يلتفت إلي أن “الجليل” ، موطن مريم عليها السلام شمالي فلسطين، لم يكن عصر المسيح وقبله بثلاثة قرون علي الأقل يتكلم العبرية، بل كانت اللغة الفاشية علي ألسنة الناس هي “الآرامية “، بعد أن تورات عبرية التوراة في فلسطين منذ القرن الخامس قبل الميلاد، فلا تسمع إلا من حبر أو “رباني” (وهي ربوني” كما تقول الأناجيل) يقرآ من التوراة فلا يفهم منه إلا أن يفسر ما يقرؤه. وقد مر بك أن إصحاحات كاملة من سفر”عزرا” (القرن الخامس قبل الميلاد) كتبت بالآرامية مباشرة. كما تقرآ في سفر “نحميا” ( معاصر عزرا) ما يلي: “وقرآوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعني وأفهموهم القراءة” ( نحميا 8/8). وبهذه الارامية نفسها كان كلام المسيح عليه السلام مع عشريته وحوارييه.

ولابد أن تتوقع لهذه الآرامية تأثيرا في نطق الأسماء الأعلام، بل وفي صياغة الأسماء الأعلام، علي الأقل بالنسبة لأعلام المسيحية الورادة في الأناجيل ، فلا تستبعد أن “تبتكر” في بني إسرائيل عصر غلبة الآرامية علي ألسنة الناس، أعلام آرامية التركيب والصياغة يستشكل تفسيرها بالعبرية ، ولا يفهم معناها إلا أن ترد إلي الآرامية التي اشتقت منها . من ذلك اسم “مريم” بفتح الميم البادئة لا يصح أن تكون الأناجيل اليونانية في رسمها مفتوحة الميم، والإنصاف يقتضي منك – وتوجب نزاهة البحث عليك- ألا تبادر إلي تخطئة كتبة الأناجيل في “تهجئة “الأسماء الأعلام خاصة، قبل أن تلتمس لهم العلة، فقد كانوا- ومنهم خلصاء المسيح وحواريوه- ينطقون تلك الأعلام علي الوجه الذي به كتبت ، لاسيما والخط اليوناني لا يحتاج إلي الشكل والنقط، بل تكتب “مريم” مثلا: ما- ري – ام MARIAM، لا شبهة في فتح ميمها البادئة. فهي إذن غير “مريام” العبرية ، أخت موسى وهارون ، من المراء والمرية، ولا يجوز أيضا افتراض جواز كسر الميم وفتحها في “مريام” العبرية ، لأن هذا غير جائز في نحو تلك اللغة. ولا يصح افتراض أنهم “لحنوا” في نطق “مريام” العبرية بتأثير “آرامي” لأن الآرامية لا تفتح مكسورا في العبرية، وإلا لفتحوا ياء “يشوع” اسم المسيح عليه السلام، وهو اسم عبري خالص، تسمي به قبله في بني إسرائيل أعداد لا تحصي . وإنما الذي يصح منك هو افتراض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، لا شأن لك بمريام أخت موسى وهارون.

ونحن في هذا البحث نفترض آرامية اسم مريم أم عيسى عليهما السلام، مفتوح الميم، لأنه لا يصح لدينا وجه في تفسير معناه إلا بافتراض آراميته. وهو عندنا اسم مزجي، مركب من عنصرين آراميين: “ماري + أما “، سهلت همزته، ثم رخم ، فأصبح “ماري+ م “، أي “مريم” (قارن “فاطمة” العربية التي ترخم “فاطم” ) . أما “ماري” فمعناها بالآرامية فهي نفسها “أمة” العربية، مؤنث العبد، فهي عليها السلام “أمة الرب” . والذي يستوقف النظر أنها عليها السلام فسرت اسمها بهذا المعني نفسه فيما يرويه علي لسانها لوقا في إنجليه، ولم يفظن إليه من قارئي هذا الإنجيل أحد : “فقالت مريم هو ذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك. فمضي من عندها الملاك” (لوقا 1/38)، ولو ترجمت عبارة “أنا أمة الرب” إلي الآرامية ، لغة مريم وعشيرتها ، لجاز لك أن تقول باللسان الآرامي: أنا لـ “ماري” أما، أي أنا للرب أمة . أما القرآن فيقول : “يا مريم اقنتي لربك” ومعني القنوت في العربية كما يقول معجمك العربي هو “الإقرار بالعبودية لله“كما تقرأ في القرآن في مناسبة تسمية مريم قوله عز وجل: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } (36-37) آل عمران.

كانت أم مريم رضي الله عنهما في الآية 35 من سورة آل عمران قد نذرت ما في بطنها للرب محرراً، أي خالصا لعبادته عز وجل، أي للخدمة في المعبد ، عابداً متحنفا، وكانت ترجوه ذكراً تهبه لله، وسألته عز وجل أن “يتقبل منها”. وتنبئك الايتان 36و37 بأن المولود جاء أنثي علي خلاف رجائها فخشيت ألا تصح نذرها بأنثى فقالت “رب إني وضعتها أنثي” ، وكأنها حين فوجئت قالت، “أمة يا رب أمة؛” ، وهي بالآرامية : “ماري؛ أما ؛” ، ولكن العالم بما وضعت” تقبلها بقبول حسن”، فهو عز وجل هكذا أراد وقدر، ليخرج منها عيسى عليه السلام، المولود لغير أب، مولوداً من عذراء لا تزن بريبة، كما قال عز وجل : { يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ} (42) سورة آل عمران.

******

أما من حيث ترتيب تناولنا لتلك الأسماء الأعلام علما علما، فقد كانت أمامنا خيارات ثلاثة:
الخيار الأول: أن نتناولها بترتيب “ألقبائي” ، أي بترتيب أوائلها علي حروف المعجم العربي، فنبدأ بإبراهيم وننتهي بيحيي عليهما السلام مراعين ذات الترتيب في أحرف الاسم التالية للحرف الأول، فيجئ بعد إبراهيم “إبليس” وبعد “إبليس” آدم، وبعد آدم “آزر” ، الخ.
الخيار الثاني : وهو تناول الأعلام بترتيب نوعها، كان نبدأ بأعلام الذات ، ونثني بأعملا الجنس، وننتهي بأعلام الموضع.
الخيار الثالث: وهو تناول تلك الأعلام بترتيبها التاريخي، فنبدأ بالملائكة وآدم، وننتهي بعيسى بن مريم، صلوات الله وسلامه علي ملائكته ورسله وأنبيائه ، غير مفرقين بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، بل يجئ كل في إطاره، فتجئ مثلا التوراة ومصر مع موسى، ويجئ هود مع عاد، وثمود مع صالح، وشعيب مع مدين والجودي مع نوح، والإنجيل مع المسيح بن مريم.

وقد آثرنا في هذا الكتاب الأخذ بالخيار الثالث الذي يتناول الأسماء الأعلام بترتيبها التاريخي، لأن الخيار الأول- الألفبائي- وإن كان ييسر رجوع القارئ إلي الاسم العلم بترتيبه “المفهرس” ، يعيبه أن ترتيب الأسماء الأعلام ترتيبا أصم علي حروف المعجم يقتطعها من إطارها الجغرافي- التاريخي- اللغوي، فتجئ توراة موسى العبرانية بعد إنجيل عيسى الآرامي اليوناني، ويجئ عيسى آخر أنبياء بني اسرائيل قبل نوح خليفة آدم، بل وقبل أمه مريم رضي الله عنها. أما الخيار الثاني الذي يفصل بين علم الذات وعلم الجنس وعلم الموضع، فيعيبه أنه يقطع مثلا ما بين الإنجيل وصاحبه، وبين مدين ورسولهم ، وبين فرعون ومصر.

أما الخيار الثالث، الذي يحترم وحدة الأرض والتاريخ واللغة، ويراعي التسلسل التاريخي للأسماء الأعلام، فهو في رأينا أفضل الخيارات الثلاثة جميعا، لأنه يضع الاسم العلم علي أرضه، وبين معاصريه ، حياً مشخصا، يفسر بعضه بعضا كما سيأتي تفسير أعلام الجنس وأعلام الموضع في سياقها المناسب، أي في سياق تفسير أعلام الذوات المتصلة بها.



... يتبع


الأحد، ٢٢ أبريل ٢٠٠٧

الاسم العلم في الكتب المقدسة

السلام عليكم

أرجو أن يكون موضوع كتاب "من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن" قد أعجبكم. ولعل الشرح يطول بعض الشيء لكن العذر في تشعب الموضوعات وأهميتها في نفس الوقت....
عرضنا في المقال السابق سر تميز اللغة العربية عن غيرها من لغات الأرض في عصر نزول القرآن بل وحتى اليوم رغما عن أنف المستغربين!... أما اليوم فنركز على بعض النقاط الأخرى مثل:

1- الاسم العلم ودلالته.
2- هل لأسماء الأنبياء والرسل معنى... أم هي مجرد أسماء سميتموها لا تعبر عن شيء؟!
3- يتطرق بنا الحديث هذه المرة إلى الكتب المقدسة "التوراة" و"الإنجيل" ولماذا كتبت أغلب أصولهما باليونانية القديمة رغم أنها لم تكن سائدة عصر موسى وعيسى عليهما السلام!
4- هل كانت ترجمة الكتاب المقدس دقيقة دائما؟!
5- ما هو العلم الأعجمي وكيف تعامل معه القرآن الكريم؟!
6- ما سر الخلاف بين القرآن والكتب المقدسة الأخرى في تسمية بعض الأعلام؟!

مع تحياتي




من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً القرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******

الاسم العلم في الكتب المقدسة

(1)

الأعجم أصل معناها "الأعوج" ، من عجمه يعنى لواه، ومنه عجم عوده، أى ثناه، يختبر صلابته.واعتجم عليك الكلام، واعتجم عليك اللفظ، أي التوي، فلا يستقيم له معني عندك، كما لا تفهم أنت إلا كلام بني أمتك، إلا أن تتعلم لغة غير لغة أهلك. وصدق الحق سبحانه إذ يقول:
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم } (38) سورة الأنعام.
{ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } (41) سورة النــور.
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } (44) سورة الإسراء.

وسمي "الأجنبي" أعجميا، لأنه يتكلم لغة لا تفهمها. وأنت أيضا "أعجمي" عنده لأنك لا تفهم ما يقول، أو لأنك تقول ما لا يفهمه هو. واللفظ "الأعجمي" هو اللفظ بلغة أعجمية، لا تفهم معناه، إلا أن تتعلم تلك اللغة. وهو أعجمي أيضا لأنه يلتوي به لسانك. إنه في الغالب الأعم لفظ لا تستطيع النطق به علي أصل وضعه عند أصحابه: ربما ثقل عليك وزنه، وربما حوي أحرفا لا مقابل لها في أصوات لغتك، فتحتال علي نطقه قدر ما تستطيع، ولكنك لا تستطيع الاستمرار في المحاكاة والتقليد فتعود إلي سليقتك، وتنطقه محرفا، بعد أن تهذبه وتنقح فيه، حتي يستقيم لك نطقه علي وزن "عربي" بأصوات "عربية" : ربما أسقطت حرفا أو حركة، وربما زدت فيه أو أبدلت منه.

والأعجمي المنقح علي هذا النحو- أي المصبوب في قوالب العربية وأوزانها – يسميه اللغويون"الأعجمي المعرب". وفي هذه التسمية إشارة إلي أن الأعجمي المعرب يظل أعجميا أيضا بعد تعريبه، لا بحكم ما كان عليه. فقد استعرب لك، ولا بحكم دلالته علي مسماه، فقد استبان المسمي، ولا بصورته. فقد استقامت علي موازين العربية ومخارج أصواتها، وإنما هو يظل أعجميا بمادته، أي بجذره الأعجمي المشتق منه في لغة أصحابه، وهو جذر لا مفهوم له عندك. بل أنت تدرك من الأعجمي المعرب معناه في مجمله، ولا تدري مما نحت لفظه، أو تركب، كي يؤدي هذا المعنى.
خذ مثلا لفظة" سجيل"، ذلك الرجز الذي وقع علي أبرهة وجيشه :
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ. تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ.فَجَعَلَهُم ْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} (3-5) سورة الفيل،
وعلى قوم لوط :
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ. مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (84:83) سورة هود . أنت في سجيل تقف عند المعنى العام. ولكنك لو أخذت برأي من قال إن سجيل معربة عن الفارسية "سكيل"، بمعني الطين المتحجر (سك= جاف، كيل = طين) لأدركت ماهية السجيل ومادته في أصل معناه.
ومن طرائف الأعجمي المعرب أنه يتعجم علي أصحابه الأصلاء حين ترد إليهم بضاعتهم" منكرة" متحورة : هب مثلا أنك ممن يرون أن "المقوقس" ، عظيم القبط، معربة عن اليونانية "مجستس" Megistos (ومعناها "الأعظم") . وهبك أيضا كلفت بترجمة رسالة النبى صلي الله عليه وسلم إلي ذلك اليونانى المتمصر، أفتترك في ترجمتك اليونانية لفظ المقوقس علي حاله أم ترده إلي أصله اليوناني "مجستس"؟ إن لم تفعل فلن يفهم عنك المقوقس ما تقول. وهبك كلفت بترجمة رد المقوقس علي النبي، أفتقول في ترجمتك العربية: من "مجستس" إلي محمد (صلي الله عليه وسلم) ؟ إن فعلت فلن يفقه قارئك العربي ما تريد. وقل مثل هذا في رسالته صلي الله عليه وسلم إلي عظيم الروم"هرقل"،وأصلها بالرومية هركليوس Heraclius ، امبراطور بيزنطة آنذاك، وإن كان المخاطب بها في واقع الأمر وإلي هرقل علي الشام.

استعرب الأعجمي إذن للعرب، فاستعجم علي أهله حين اهتجن. علي أن المستعرب يغدو عربيا بالتقادم، والأعجمي في اللغة يعدو بعد ذهاب لكنته أصيلا أو كالأصيل في مفرداتها، يخفي علي غير المتخصص أصل منبته، كما تري في لفظة"المهندس"، المأخوذة من الفارسية "هنداز"، بمعني القدر والحد، وكما رأيت من قبل في "سجيل" و"المقوقس" و "هرقل" وأمثالها: الأعجمي المعنوي، والأعجمي العلم. وهذا هو شأن أعجمي القرآن كله، معنويه وأعلامه.

والذي يستوقف النظر أن القرآن لم يسم أحدا من معاصريه: لم يسم كسري ولا قيصر أو غيرهما من العجم. وإنما الذي ورد في القرآن من أعلام عصره ثلاثة أسماء لا غير، كلها عربي: محمد صلي الله عليه وسلم، ومولاه زيد رضي الله عنه، والذي تب وتبت يداه أبو لهب.

كانت الأولى فيما نري - وقد وردت في القرآن خمس مرات إحداها بلفظ "أحمد"- تشريفا- للنبي، وكانت الثانية تنصيصا علي دخول زيد بن حارثة بزينب بنت جحش رضي الله عنهما وحلها من بعده للنبي تأكيدا لبطلان البنوة (راجع الآيات 37 إلي 40 من سورة الأحزاب)، وكانت سورة المسد حكما قاطعا بالتباب والخسران علي شخص بعينه، وعلي امرأته حمالة الحطب، وامتناع قبول التوبة منهما ، وأريد إعلان هذا الحكم لأبي لهب وقومه في هذه الدنيا، فكا لابد من تسميته بالإسم ، كيلا يختلف فيه أحد.


(2)

أما الذي نعينه بالاسم المعنوي - بعيدا عن مواضعات أهل النحو والصرف - فهو الاسم المشترك الدال بذاته علي معني ما يجتمع فيه كل أفراده لا يشذ منهم أحد، نكرة ما لم يعرف بالإضافة أو بالألف واللام، عام لا يتخصص إلا بالإضافة أو النعت، يقبل بطبيعته الإفراد والتثنية والجمع: إنه بالتحديد أسماء الأفعال، والصفات، وأسماء الجنس، أحيائه وجماده.

من ذلك أن لفظة "إنسان" تصدق علي كل فرد من بني آدم . أما إن عرفتها بالألف واللام فهي مطلق"الإنسان". وتستطيع أيضا تعريفها بالإضافة فتقول مثلا "إنسان العين"، تعني "بؤبؤها"، أعني صورة ذلك الإنسان التي يطل بها عليك محدثك كلما حدقت في عينيه، وهي صورتك أنت انعكست علي بلورية عيني أخيك. وتستطيع أيضا أن تثني وتجمع ، فتقول "إنسانان" وتقول "ناس" و "أناسي" . وقس علي ذلك أمثال الزهرة والسنبلة ، والنملة والهدهد، والصخر والحديد، والسندس والإبريسم والديباج، والأسد والقسورة ، والبحر والجبل، والشيخ والصبي، والغني والفقير، والصغير والكبير. وقس علي ذلك أيضا أسماء الأفعال من مثل "فلسفة"، التي تجمع علي فلسفات ، أو "تعب" التي تجمع علي أتعاب و متاعب. لكل من الألفاظ التي ذكرت ، وأشباها، كما تري ، معني محدد في ذهنك وذهن محدثك ، وإن تحدثت به إليه فإنما تريد هذا المعني بالذات ، ولا تريد "شخص" من اتصف به أو وقع عليه، فكل الجبال جبل، وكل الآساد أسد، وكل الأثرياء ثري، وكل ما كان من الجمال بوجه فهو جميل.
بل حتي إن خصصت فقلت : هذا الأسد ، فقد خصصت "أسدا" ما بالإشارة ، ولم تزد علي أن سميته باسمه "المشترك" بين سائر بني جنسه. وليس هكذا أمثال "زيد" أو "عمرو".
الاسم " المعنوي " ، يريد المعني ولا يريد الشخص.
الاسم " العلم "، علي النقيض من هذا كما ستري، يريد الشخص ولا يريد المعني.

****

يطلق الاسم "العلم" لا يراد منه معناه، وإنما يراد منه شخص المسمي ذاته، ناسبه الاسم أو تناقض معه.
خذ مثلا ذلك الصديق الذي لم ير قط عبوسا ، بل تلقاه دائما أبدا منفرج الأسارير متهلل الوجه، ولكنك لا تنفك تناديه بما سماه به أبوه، فتقول : يا عباس ؛ أو ذلك الشيخ الذي تمادي به العمر، وهو وليد. بل كم من عبلة عجفاء، وهيفاء ليست بهيفاء، أو خديجة لم يخدج بها .
ورب عمرو لم يعمر، أو زيد ولا زيد ثم ولا فضل. وليست "القاهرة" لمجرد اسمها وحده بالتي تقهر دائما الغزاة، وإنما سميت عاصمة مصر بهذا الاسم تيمنا فحسب.
الاسم هنا "علم" علي ذات صاحبه، والعلم من العلامة : إنه مجرد رمز ترمز به إلي شخص أو شعب أو بلدة أو موضع، يلخص في ذهنك كل ما "تعرفه" عن ذلك الشخص أو الشعب أو البلدة أو الموضع، تعلم هذا أو ذاك بتلك العلامة التي اصطلحت مع محدثك عليها كيلا تختلط عليكما الأشخاص والأماكن، مثلما يعلم الأب أبناءه بتلك الأسامي التي يطلقها عليهم، لا يريد من التسمية إلا هذا ، ولو سميت ابنك عمراً بزيد وسميت زيدا بعمرو، أو خالفوا في التسمية بين بغداد والقاهرة، لجاز . ولكنك متى سميت ، فقد خرج الأمر من يدك، لا تملك له تبديلا: لصقت التسمية بالمسمي وانتهى الأمر.
الاسم العلم إذن هو اسم "الذات" مجردة من الصفات، لا معني له- مهما كان أصل وضعه واشتقاقه- إلا تلك
الذات التي يدل عليها في ذهنك وذهن محدثك، لا تختلط بغيرها.
ربما ثنيت فقلت "العمران". ولكنك عندئذ تريد أبا بكر بن أبي قحافة وعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما، ولا تريد أي أبي بكر وأي عمر".
بل ربما جمعت فقلت"المناذرة"، ولكنك تريد"آل المنذر" ملوك الحيرة ، لا كل "منذر". مع أن الاسم العلم يطلق علي كثيرين، أي يطلق نفس الاسم علي"ذوات" متعددة، متجاورة أو متباعدة في الزمان والمكان، وربما تكرر اسم جد لحفيد، بل في مصر "اسكندرية" وفي الولايات المتحدة صنوها، وفي قري مصر"باريس"غير "باريس" عاصمة فرنسا، إلا أنك حين تتحدث بالاسم العلم فإنما تتحدث عن واحد بعينه ، لا كل ما تسموا باسمه، تريد الشخص أو الموضع، ولا تريد "سميه". لهذا كان الاسم العلم"معرفة" بذاته، لا يتعرف بالإضافة إلي معرفة، ولا يتعرف بالألف واللام، وإنما يتعرف بالعلمية. ربما وقعت فيه الألف واللام،ولكن هذا مجرد حشو، كما في أمثال "القاهرة" أو "الحسن" ..، فأنت تعني في الأولى عصمة مصر، لا اسم الفاعل المؤنث من "القهر"، ولا تقصد من الثانية صفة "الحسن"، وإنما تريد الحسن بن علي رضي الله عنهما. وربما جازت الإضافة في الاسم العلم، كما في "نيل مصر"، ولكنك تريد ذلك " النهر" الذي في "مصر"، كما تقول "قاهرة المعز" ولا "قاهرة" في ذهنك وذهن محدثك إلا هي. ومن خصائص الاسم العلم أنه لا يوصف إلا علي الخير أو علي البدل، ولا يوصف علي النعت، لأن النعت يخصص، والاسم العلم متخصص بذات علميته"، لا يحتاج إلى مخصص. من ذلك قولك: "الله أكبر"، علي الخبر، تنزه ذات الله عز وجل عن المثيل والند، ولا تقول: "الله الأكبر"، علي النعت، لأن معني هذا أن ثمة آلهة الله أكبرهم، وهذا لغو لا يصح. أما الوصف علي البدل فمنه قوله عز وجل: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيم . مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} سورة الفاتحة (1-3) أي الحمد لله الذي هو رب العالمين، الذي هو الرحمن، الذي هو الرحيم، الخ. فالله علم علي ذاته تباركت أسماؤه، وسائرها بدل منه. ينطبق هذا بتمامه علي قولك : زيد وفي، علي الخبر، تنبئ محدثك بصفة لمستها في "زيد"، ومثله قولك : زيد الوفي، علي البدل لا علي النعت، وكأنك قلت: زيد، هذا الوفي، ... الخ.
متي نعت فقد لقبت، علي البدل من المنعوت، تؤكد لمحدثك ذاتية زيد الذي تعنيه، كيلا يختلط" الأزياد" عليه ، كما في "محمد الفاتح" أو "الحسن البصري"، وكما في "الحسن بن علي" رضي الله عنهما. كل هذا علي البدل ، لا علي النعت.

علي أن للاسم العلم -فوق اختصاصه بالدلالة علي ذات صاحبه- معني ما، كان بالتأكيد وراء اختياره علما علي أو لمن تسمي به ثم جري من بعد في أسماء الناس، ربما لمعناه ، وربما لجرسه، وربما إعزازا لعزيز تسمي به، أو عظيم في أمتك ذي شأن. ربما جال بخاطرك هذا كله أو بعضه وأنت تختار اسما لمولود ولد لك، ولكنه يمحي تماما من ذهنك بعد ما اخترت وسميت، فلا يبقي لديك من معني الاسم إلا جرسه، وإلا دلالته في سمعك وسمع محدثك علي "ذات" المسمي، أي لا يبقى من الاسم إلا ذلك "الصوت" الذي تطلقه فيستجيب المنادي به ، وكأنك حين تقول: يا زيد ؛ لا تعني إلا " يا هذا" ، ولا أكثر ولا أقل.

وهذا يفسر لك لماذا تنبهم علي كثير من الناس – بل وعلي أصحابها أحيانا- معاني الأسماء الأعلام، إما لأنهم يطلقون الاسم و لا يتعمقون معناه، وإما لأن الاسم قديم موروث ، لا يستعلن بمعناه إلا للباحث العكوف المتخصص: كم من زينب لا تعرف ما الزينب (شجر حسن المنظر طيب الرائحة، راجع في معجمك العربي مادة "زنب") وكم من خديجة ولا تدري أنها من الخداج الخداج هو النقص، وأخدجت الحامل، ألقت بولدها قبل تمام أيامه، وإن كان تام الخلق، فهو خديج).

بل قد يكون الاسم من أصل أعجمي يفوت معناه علي صاحبه، بل وعلي أبيه الذي سماه به، لا يدري من أي لغة هو، وعلام يدل، لأنه لم يرد المعنى أصلا، وإنما أراد الجرس، أو أراد شخصا عزيزا أو بطلا، وربما أراد شخص نبي أو أراد ملكا، كما في جبرائيل وميخائيل (جبريل وميكال في القرآن) ، وكما في يونس ويوسف ونوح وإبراهيم، صلوات الله وسلامه علي ملائكته وأنبيائه، ثم تمضي القرون، وتتكرر التسمية في أجيال وأجيال، ويذوب المعني في الجرس فينسي ، ثم يندثر. وليس هذا وقفا علي العربية وحدها، ولكنه شائع ذائع في كل اللغات: كم فرنسية تعلم أن هنرييت معناها "ست الدار" ؟ وكم من جورج (جرجس في مصر) يعمل أن معناها "الحارث"؟ وكم من كلود (قلدس وأقلاديوس في مصر) يعتزي فخورا إلي قيصر تسمي به (كلاوديوس) ولا يدري أن معناها "الأعرج" أو "العرجي"؟ بل كم من مارك (مرقص في مصر) يدري أنها "المريخي" المزاج، أي الغضوب أو " الحربى" وأن مؤنثه مارسيل كذلك ؟ وكم من راشيل (راحيل العبرية) تعلم أن معني الاسم في العبرية هو "النعجة" أنثي الغنم ؟ ربما لو توقف الناس عند معني الاسم العلم لترددوا في التسمية، ولكنهم لا يتوقفون، إما لأن المعني لا يعنيهم ، وإما لأنهم جهلوه أو أنسوه.

وهذا يفسر لك أيضا لماذا لا تجوز ترجمة الاسم العلم إلى معناه في اللغة المنقول إليها، وإنما الجائز فقط هو "تعريبه"، أي تهذيبه علي مقتضي مخارج أصوات اللغة وأوزانها : يجوز لك تعريب "جيورجيوس" اليونانية" إلي "جرجس"، ولا يجوز لك ترجمتها إلي "الحارث" أو الفلاح. لا تجوز لك ترجمة الاسم العلم إلا إذا كنيت وأبهمت ، أو تظارفت، فقلت في معلقة "الحارث بن حلزة" : قالها جورج بن حلزة ؛ أو ناديت صديقك "رمسيس"(رع+ مسيس المصرية القديمة) بقولك: ابن الشمس ؛ أو أردت كمصري – مطلع هذا القرن- أن تخوض في "جورج الخامس" ملك انجلترا التي كانت تستعمر مصر آنذاك ، فقلت : الفلاح بن الفلاح؛ تكني وتبهم ، تخشي علي نفسك سلطانه وحوارييه، وعيونه وأعوانه.

وكما لا تجوز ترجمة الأعجمي العلم إلي معناه في اللغة المنقول إليها، لا يجوز أيضا الإبدال منه بمرادف من نفس اللغة في ذات معناه، كأن تنادي صاحبك زيدا بقولك : يا فضل ؛ ثق أن "زيدا" لن يسمع منك، وإن سمع فلن يستجيب، ذاتيته هي "زيد" لا "فضل"، وإن تطابق المعني. وهذا يفسر لك - وهو بيت القصيد في كل ما سبق- ضرورة احتواء القرآن هذا الشطر من اللفظ الأعجمي، أي الأعجمي العلم، وهو يحدث بأخبار من لا تشك قط في عجمته ويقص عليك نبأ القرون الأولي، منذ بدء الخلق بآدم. ناهيك بالملأ الأعلي، وناهيك بيأجوج ومأجوج، وهاروت وماروت، وإبليس وفرعون، وعاد وثمود ، وقوم لوط وأصحاب مدين. وإذا كان قد وجد من علماء القرآن من ينكر البتة احتواء القرآن لفظا أعجميا واحدا، ولو كان من الأعجمى المعرب أمثال سندس وسرادق واستبرق وقسورة، وبذلوا من الجهد، وأيضا من الافتعال الشديد الوعر فيما يحسبونه ذودا عن القرآن بإثبات أصالة هذا اللفظ أو ذاك في العربية ونفي عجمته، إذا كان هذا هو موقف بعض علماء القرآن من أعجمي القرآن، فهذا كله في باب الأعجمي،"المعنوي"، لا في بابا الأعجمي العلم، لأن العلم الأعجمي لا يصح فيه جدل. ونحن لا نبتغي جدال هذا الفريق من العلماء في موقفهم من الأعجمي المعنوي في القرآن، وإن ألممنا به في سياق ما نكتب، لأننا في المقام الأول لا نريد أن نخوض بك في جدل يذهب بحلاوة ما هدانا الله إليه بفضل منه ونعمة، وهو تفسير أعجمي القرآن بالقرآن، وثانيا لأنه يخالف المقصد الأساسي لهذا الكتاب، لأن تفسير القرآن لأعجميه المعنوي- إن وجد- ليس فيه علم ولا إعجاز، وقد عرفها العرب"معربة" قبل القرآن لا تحتاج إلي تفسير. وإنما الإعجاز كل الإعجاز أن تفسر في لغات شتي – بعضها دارس- علما أعجميا يفوت معناه علي صاحبه، ويجهله أبوه، ناهيك بأساليب القرآن في هذا التفسير ، كما ستري. ربما خالف القرآن مبدأ عدم جواز ترجمة العلم الأعجمي كما ذكرنا آنفا، أعني إسقاط الأصل الأعجمي جملة والإتيان به مترجما، علي نحو ما فعل القرآن في أمثال "إدريس" و "ذي الكفل"، مما نتناوله فيما يلي من فصول هذا الكتاب. ولكن هذه أيضا من إعجاز القرآن . وسيأتي.

(3)

يكثر في العبرية – كما في الآرامية- التسمية بالفعل المضارع مسندا إلي المفرد الغائب، لا يعنون منها الفعل. وإنما يقصدون منها اسم الفاعل، وكأن"يقول" بمعني "قائل" و"يسمع" بمعني "سامع". ومن هنا كثرة العلم العبراني
المبدوء بياء المضارعة، ومثال ذلك "يصحاق" . (اسحاق في القرآن) مضارع الفعل العبراني"صحق"(وهي ضحك العربية)، التي لا يقصد منها الفعل "يضحك"، وإنما يقصد منها اسم الفاعل من "ضحك" ، أي "الضاحك"، وهذا هو اسم نبي الله اسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، وقد سمي العرب بمعناه علي المبالغة، فقالوا"الضاحك".

(الصاد السامية، كالصاد العربية،ينطقها يهود العراق صادا علي أصلها، وهو الصحيح.ودع عنك ما تسمعه في العبرية المعاصرة من مثل نطق هذه الصاد بالحرفين ت س، كما في "يتسحاق شامير". تلك "صاد" تحورت عند يهود الشتات بالنطق الجرماني للحرف Z (tset) قارن أيضا "إيزاك"Isaac الفرنسية بمعنى إسحاق.)

وللتسمية بالفعل المضارع نظير باق في العربية، تجده في أمثال "يزيد" و "يثرب" و "ينبع". والأصل في هذا أن الفعل المضارع يتضمن معني الاستمرار، فيصلح للحال كما يصلح للاستقبال، والتسمية به تسمية علي التيمن والتفاؤل، أي "يضحك" وسيظل، فهو ضاحك وضحوك.
وقس علي ذلك أمثال"يعقوب" ومعناها العاقب، و"يوسف" بمعني يزيد.

****

والذي يستوقف النظر هو سكوت"علماء بني إسرائيل" الذين عاصروا القرآن وعايشوا مفسريه إبان الدولتين الأموية والعباسية عن "تصويب" ما وقع فيه بعض هؤلاء المفسرين الذين تصدوا بغير علم ولا سند لتفسير معانى الأعلام الأعجمية في القرآن - خاصة أعلام أنبياء بني إسرائيل وكلها عبراني - بالعربية وحدها، فقالوا علي سبيل المثال إن إسحاق من "السحق" ، ويوسف من "الأسف". ويونس من "الإيناس"، في حين أن أبسط علم بالعبرية - ناهيك بيهودي من أهلها- يكفي كي تعرف أن يونس يعني "حمامة"، وأن يوسف يعني يزيد، وأن إسحاق يعني ضحوك، لا سحق ثم ولا انسحاق.

وربما بلغ بك العجب وقد علمت أن من علماء بني إسرائيل هؤلاء من أسلم علي عصر الرسول حقا وصدقا فحسن إسلامه، بل ومنهم من زكاه الحق تبارك وتعالي فقال فيه : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } (10) سورة الأحقاف
كما قال عز وجل : {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} (197) سورة الشعراء
فكيف سكت أمثال هؤلاء عن هذا العبث، وهم من هم في العلم بالعبرية التي يتدارسون بها التوراة؟
يدفع هذا الاعتراض أن تفسير أسماء الأنبياء لم يثر علي عهده صلي الله عليه وسلم، ولم يؤثر عنه في المسألة حديث صحيح، وإذن فلم يكن بأمثال ابن سلام ومن في طبقته ورتبته حاجة إلي الرد أو إلي التصويب.
أما من جاءوا من بعدهم، من يهود أسلموا فحسن إسلامهم، أو يهود أسلموا تقية ولما يدخل الإسلام في قلوبهم، أو يهود ظلوا علي يهوديتهم، فهولاء وأولئك فرق : الفرقة الأولي مسلم حسن إسلامه فانقطعت صلته بتوراته وعبريته، والثانية يهودي أسلم علي دخل يريد أن يترك وشأنه لا يزن بريبة فيبرأ من توراته ومن عبريته، لا يسمع له في المسألة قول وإن علم، والثالثة يهودي في دار إسلام انقطعت صلته بالعبرية ولم تنقطع بالتوراة، ولكنه لا يعلم التوراة إلا "أماني" أي تلاوة فحسب، لا يفقه كثيرا مما يردده في صلواته وأذكاره، شان مسلم فلبيني لا يعرف من العربية إلا "الفاتحة" التي لقنها في طفولته ليقرأ بها في صلاته، أو شأن قبطي في مطلع القرن الرابع الهجري لا يفهم إلا العربية وحدها يقرأ في صلواته من إنجيله اليوناني، مثل هذا ينأي بنفسه عن مواطن الزلل فيحاذر الخوض فيما لم يعد له به علم.
أما الفرقة الرابعة، المعنية باللوم، أو المعنية بالتساؤل، فهم أحبار اليهود، ورؤساء الملة، المتضلعون من العبرية ومن التوراة، المتقنون العربية كأبنائها ومثقفيها. لما سكتوا؟
أفلم يكن من بينهم من يعلم أن يوسف ليست من الأسف وإنما هي بمعني "يزيد"؟ أو ليس تفسير اسم يوسف واردا بنصه العبراني علي لسان والدته "راحيل" حين وضعته: "وتقرأ إت- شمو يوسف ليمر يوسف يهوا لي بن أحير" (يعنى) ودعت اسمه يوسف قائلة يزيدني يهوا ابنا آخر، أي "سميته" يزيد ويزيدني الله ابنا آخر" ؟(تكوين 30/24) هل سكتوا يأسا أن يصدقهم أولئك المفسرون، وقد وصم القرآن آباءهم من قبل بالكذب علي التوراة؟
أم سكتوا ضنا بعلمهم أن يعينوا أولئك المفسرين علي تصويب أخطائهم ، أي سكتوا ضغناً علي الإسلام وأهله أن يمنعوا من اللغو في قرآنهم؟
أم لم تكن لمفسري القرآن وأصحاب السير صلة بأحبار يهود؟
كيف ، وقد نقلوا عنهم ما نقلوه من "اسرائيليات" واضحة الزيف، ليس أقلها ما يروي عن "كعب الأحبار" من قوله في سورة" آل عمران" : اسمها في التوراة طيبة؛ فلا تدري- وليس في التوراة من هذا شئ- أساءت طوية كعب فقالها تملقا وتدليسا، أم قالها تعالما بما لا يعلم؟
قل في هذا أو ذاك ما شئت ، فقد كان من هؤلاء الأحبار مخلص ليهوديته، باق علي وهمه، القرآن عنده مدسوس كله علي الله عز وجل، حبذا لو لغا فيه بعض أهله، ولكنه يئس من مناطحة القرآن بالتوراة أو لعله جبن، فانصرف إلي توراته لا يسمع منه قول في غيرها. وكان منهم أيضا الذي كاد للقرآن وأهله، بكتمان ما علمه الله، أو بالتزييف علي التوراة، آمنا ألا يفضحه مسلم يجهل العبرية ويصدف عن مطالعة التوراة. وكان من هؤلاء الأحبار أيضا- لانشك في هذا – أولئك الذين وصفهم الحق تبارك وتعالي بقوله: "لا يعلمون الكتاب إلا أماني".
أما الذي يجب أن تعلمه أنت وتطمئن إليه، فهو أن التوراة في عصر تصنيف تفاسير القرآن، بل وإلي عصر جد متأخر، لم تحظ ببحث لغوي نقدي تحليلي جدير بهذا الوصف، وأن الذين ضربوا بسهم موفور في هذا البحث كانوا – علي عكس ما قد تظن – مسيحيين مؤمنين أو ملحدين يرون جميعا أن التوراة جزء لا يتجزأ من كتابهم المقدس،علي خلاف ما بينهم في التفسير بالهوي أو بالعقيدة. ولكن القرآن سبق ففصل. ليس "يوسف" من الأسف ، وليس بالضرورة "يزيد".

القرآن يدلك علي معنى آخر لاسم هذا النبي الكريم ، الذي ائتمر به أخوته فكان "ضيف" الله في "الجب"، وكادت له النسوة والتي هو في بيتها فكان "ضيف" الله في "السجن".وشاء عز وجل –بيوسف- أن يوطئ لبني إسرائيل في مصر كي يخرج من بينهم- وليس شئ علي الله بعزيز- من ينشأ في بلاط طاغوت علا في الأرض، يتخذه ولدا ليكون له من بعد عدواً وحزنا: يلتقط موسي من اليم ليدسه موسي في ظلمات اليم الأعظم، بعد أن أقام الله عليه الحجة: ما كان لرسالة موسي عليه السلام أن تولد في قصر فرعون لو لم يأت الله بيوسف من قبل "ضيفا"علي مصر عند ملك يستخلصه لنفسه فيقيمه علي خزائن الأرض ، ويستأذن يوسف الملك فيأذن له في الإتيان بأهله إلي مصر جميعا، ليتم الدور المقدور لهذا النبى الكريم:" ايواء" بني إسرائيل أو "حضانتهم" في مصر إلي حين، فتنة لفرعون سيأتي حينه، وارصادا له بنبي مصري ، من ذرية إبراهيم الآرامي – العبراني، عبر إسحاق، كما سيحدث بعد نحو ألفي سنة أو أقل، بنبي عربي من ذرية إبراهيم أيضا، عبر إسماعيل، صلوات الله وسلامه علي رسله وأنبيائه، يهدم به الله الطواغيت أجمع، علي فارق في مدي ما بين الرسالتين عظيم. نعم ، كان يوسف عليه السلام"ضيف" الله في مصر، وكان عليه السلام أيضا لبني إسرائيل في مصر "الآوي" المضيف .
وتندهش إذ تعلم كما ستري أن اسم النبى يوسف عليه السلام الذي ينطق في العبرية بكسر السين، يعني أيضا ، بنفس النطق في العبرية ، "الآوي" المضيف.
فأي ‘إعجاز ، وأي علم...

****

علي أنك قد تلتمس العذر لأولئك المفسرين الذين اعتمدوا في تفسير أسماء أنبياء بني إسرائيل علي المعجم العربى وحده، فالتشابه القوي بين جذور اللغتين من نفس الفصيلة – أي بين العربية والعبرية علي ما مر بك- مليء بالاشتباه، إن تصب مرة فقد أخطأت مرات. لا يكفي أن تكون لفظة "عين" العربية هي نفسها "عين" العبرية – الآرامية، كي تقرر دون تثبت، ودون الرجوع إلي المعاجم العبرية - الآرامية، أن اسم زوج إبراهيم عليهما السلام "سارة" من السرور، أو أن اسم نبي الله "نوح" عليه السلام من النواح، أو أن اسم "يوسف" عليه السلام مشتق من الأسف علي نحو ما قال بعضهم، كما مر بك. نعم، قد أصابوا في أن "يعقوب" من العاقبة ، وهو صحيح، ولكن ما كل مرة تسلم الجرة كما يقول المثل.

وانا أيها القارئ العزيز- إن كنت لا تعرف عبرية التوراة أو يونانية الأناجيل بما فى هذه وتلك من أعلام آرامية بل ومصرية أحيانا- لا اريد لك ان يفوتك شئ من حلاوة هذا البحث: أريد منك أن تشترط علي توثيق ما أحدثك به ، فلا أكيل لك القول جزافا آمنا ألا تكشف زيفي، لأنك لا تعلم شيئا من أمر تلك اللغات التي ذكرت لك. ليس هذا من العلم في شئ، وإنما هو من التدليس، كمن قال لك إن "إبراهيم" تعني "الأب الرحيم" لمجرد أنه يري أن "رحيم" العربية تقابل "رهيم" في الآرامية، ولا تملك ان ترد عليه ، فهي كما قال، لأنك لا تدري ما الخطأ وما الصواب في لغة لا تفهمها، ولا علم لك بأن "رهيم" هذه لا وجود لها في الآرامية ، ولا في العبرية كذلك، وأن "الرحمة" في هذه وتلك جميعا، بالحاء لا بالهاء، كالعربية تماما. كان علي مثل هذا القائل أن يدلك علام استند في اشتقاق تلك اللفظة التي ابتدعها في الآرامية ، أو علي معجم آرامي وجد جذرها فيه، أو علي موضع في التوراة (أو ترجمتها العربية) يفسر معني "إبراهيم" بالأب الرحيم. مثل هذا القائل الذي لا يحترم عقلك لا يصح أن توليه ثقتك، بل عليك أن تكون منه دائما علي حذر في كل ما يقوله لك.

***

علي أن القرآن لا يكتفي بتفسير أعلامه الأعجمية – موضوعنا في هذا الكتاب- ولكنه يفسر أيضا اللفظ العربي الأصيل المجعول في حكم العلم من مثل "الملك" واحد الملائكة صلوات الله عليهم، أو من مثل "الشيطان" ، إبليس اللعين، مما تفاوت اللغويون العرب في تحديد أصل اشتقاقه في العربية، ومن ثم تفاوتوا في تأصيل معناه، لا يقطعون فيه بيقين، ولكن القرآن سبق فحسم الخلاف، وأصل المعني.

ومن ذلك ما تلاحظه من تردد المعجم العربي في اشتقاق لفظة "الملك" واحد الملائكة ، أو مطلق جنس الملائكة ، هل هو من "الملك" و "الملكوت" ، أم هو من "الإلاكة" و "الملأكة"؟ إن كانت الأولي فهو الملك المملوك، وإن كانت الثانية فهو الرسول المرسل.

أما "الملك" في القرآن فهي تسميه بالمصدر "مفعل" من الجذر لأك ومقلوبه ألك ، فهو "الملاك" علي المصدر، بمعنى الرسالة والرسول، سهلت فيها الهمزة فصارت"الملك" .وهي نفسها علي التطابق في الآرامية والعبرية، بل وفي الحبشية أيضا، ملاك، بإثبات الهمزة وتسهيلها ، وتنطق في الآرامية والعبرية بالخاء: "ملآخ" و" ملاخ" لتحرك ما قبل الكاف كما مر بك . وعبرية التوراة لا تفرق بين "ملآخ" بمعني "الملك" وبين"ملآخ" بمعني "الرسول" . وإنما هما فيها واحد، كما تجد في سفر حجاي : "ويمر حجاي ملآخ يهوا بملأخوت يهوا" ، أي: وقال حجاي رسول الله برسالة الله" (حجاي 13:1) فتفهم أن "ملآخ" و "ملأخوت" العبريتين بمعني الرسول والرسالة، لا "الملك" أو "الملكوت". الملك والرسول إذن واحد في أصل معناهما، ولكن عربية القرآن تخصص لفظ الملك لرسل الله من أهل السماء، تفرقة بينهم وبين رسل الله من أهل الأرض، صلوات الله وسلامه علي ملائكته وأنبيائه. ولعلك تلمس هنا الدقة البالغة لهذا القرآن من نصه في سورة الأحزاب علي "خاتم النبيين" ولا يقول "خاتم الرسل"، ليس فقط اكتفاء بدلالة العام علي الخاص كما مر بك ، وإنما وبالأخص لأن محمدا صلي الله عليه وسلم إنما ختمت به الرسل من أهل الأرض فحسب، ولا ختام لرسل الله من أهل السماء أي الملائكة صلوات الله عليهم، لأن الرسالة بهم في ملكوت السموات والأرض لا تنقطع.

أما أسلوب القرآن في النص علي أن "الملك" معناها " الرسول"، فهو التفسير بالترادف علي التجاور ، كما تجد في قوله عز وجل :
{قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً} (95) سورة الإسراء ، في مقابل قوله عز وجل : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (93) سورة الإسراء
وقس علي ذلك قوله عز وجل : {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } (75) سورة الحـج.
وإبدال "الرسل" من الملائكة مطلقا، أي إثبات "الرسل" في موضع الملائكة، في مثل قوله عز وجل:
{ حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} (61) سورة الأنعام، { قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } (21) سورة يونس ، {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } (69) سورة هود،
{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } (77) سورة هود الخ ، والرسل في هذا كله تعني الملائكة بلا خلاف.

أما لفظة "الشيطان" علماً علي إبليس اللعين، فقد اختلف اللغويون والمفسرون في نونه هل هي زائدة فتكون "شيطان" علي وزن "فعلان" من شاط يشيط شيطاً أي احترق، حُكما علي الرجيم بمآله، أم هي أصيلة فتكون "شيطان" علي وزن "فيعال" من شطن يشطن شطونا، أي بعد فهو الخاسئ المبعد، أو شطنه شطنا أي ناوأه وخالفه في القصد والوجهة، فهو المناوئ المعاند.
أما "سطن" العبرية- الآرامية ، ومنها "ساطان"، أي "شيطان" العربية، فهي في العبرية- الآرامية بمعنى المناؤئ المخاصم، أي العدو. والعداوة في الوادي وجانبه، تقف فيه قبالة الواقف في "العدوة" الآخري.
ولأن "الشيطان" عند الجاهليين لم يكن علما علي إبليس اللعين، وإنما كان مرتبطا في ذهنهم الوثني بنقيض معناه اللغوي، فكان عندهم بمعني الموالي المعين علي الإتيان بالأمر العبقري أو الطريف المعجب، كما تجد في مثل"شيطان" الشعر وغيره ، فقد ورده القرآن إلي أصل معناه في اللغة، أي العدو المناوئ المخالف. (قارن في اللغات الأوربية الحديثة Demon و Diable الفرنسيتين، الأولي بالمعني الحميد، كشيطان الشعر وغيره، والثانية الشيطان نفسه.)

أما أسلوب القرآن في تفسير الشيطان بالعدو، فهو إيراد اللفظتين علي التجاور في أكثر من آية :
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (168-208) سورة البقرة، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (5) سورة يوسف، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (50) سورة الكهف ، {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} (15) سورة القصص، {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} (6) سورة فاطر، {أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يــس، {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (62) سورة الزخرف. وغيره كثير.

لو التفت اللغويون والمفسرون إلي هذا التنصيص القرآني علي معنى"الملك" ومعني " الشيطان" لما ترددت فيهما المعاجم، ولما تخبط المتحذلقون المتفيهقون. ولكن ... لم يفطن إلي هذا من اللغويين والمفسرين أحد.
هذا الجناس المعنوي المفسر. إعجاز مقصود. كما فات هذا الإعجاز مفسري القرآن من أهله، فقد أعتجم أيضا علي أدعياء الاستشراق المتطفين علي مباحث اللغة, الذين وهموا أن القرآن- علي أصالة لفظي" الملك" و"الشيطان" في العربية- استعارهما رأسا من "التوراة" علي العلمية المجردة من المعني في "ملآخ" و"ساطان". ولكنك لا تستكثر شيئا علي مرضي الهوى والغرض.

(4)

أما لب هذا الوجه من إعجاز القرآن. فمداره أيضا علي "العلم" : القرآن يعلم علماء التوراة والإنجيل، أحبار الآرامية والعبرية علي عصر النبي صلي الله عليه وسلم وفي كل عصر، السابق واللاحق، والخائضين في أسرار اللغة المصرية القديمة منذ القرن الماضي فحسب، علم ما لم يعلموه، أو ترددوا فيه، جهلوه أو أنسوه. ولعلك تذكر أن كفار قريش وأهل الكتاب في يثرب ونجران، شأنهم شأن أدعياء الإستشراق في هذا العصر، اتهموا القرآن بالأخذ من الكتب السابقة، وبالنقل عن الأحبار والرهبان، من يهود ونصارى . قالوا حين يتفق القرآن مع التوراة والإنجيل: سمع فأدى، ما أحفظه وما أوعاه؛ وقالوا عكس هذا تماما حين يعارض القرآن كتبهم التي بين أيديهم : تشوشت في ذهنه الأمور، واختلطت الرؤي والأحلام، وتحرفت عليه الوقائع والمواقع والأعلام؛ فما "آزر" هذا الذي يسميه أبا لإبراهيم وهو "تارح" ؟ أليس قد تحرف عليه إسم " لعازر" خادم إبراهيم فظنه أباه؟ وما "طالوت" تلك التي يسمي بها "شاؤل" ملك بني إسرائيل ؟ وما "مريم" أخت موسي وهارون التي يخلط بينها وبين "مريم" أم عيسي؟ أين ذهبت حافظته؟ أين إتقانه؟ وما شأن ذلك السامري الذي صنع العجل من ذهب لبني إسرائيل في التيه؟ ألم يلقنه الأحبار أن الذي صنع العجل هارون؟ وما باله ينكر الصلب علي "عيسي" ويثبت تشريف الله إياه برفعه إليه؟ أغاية همه تبرئة الطبقة التي ينتسب إليها - الأنبياء بزعمه – من الدنية والنقيصة، كما فعل في "سليمان" الذي أسجدته زوجته الوثنية للصنم فسجد، وأبى عليه هو ذلك، فقال في "قرآنه": "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" ؟ إلي آخر ما قالوه ، فخبوا وأوضعوا.

ولعلك تذكر أيضا رد القرآن علي هؤلاء الخائنين أنفسهم : جادلهم في دعوي النقل بمحض عربية القرآن، الذي تحدى العرب أنفسهم أن يأتوا بمثله أو بسورةٍ من مثله، فكيف بعيي أعجمي يلقنه أياه؟

ولعلك تعلم أيضا أن التوراة والإنجيل لم يترجما إلي العربية إلا بعد قرون من نزول القرآن، فمن أين أوتي العلم بهما؟
ومن أين له العلم بالعبرية واليونانية وهو يلحن في أسماء الأعلام ويخلط بين خادم إبراهيم وأبيه؟ كيف يسمعها "لعازر" وتتحرف عليه إلي "آزر" ؟ أثمة عربي لا يحسن نطق العين، أم إنجليزي هو أو فرنسي، تتحرف عليه "لعازر" إلي "لازار" ؟

والقرآن لا يلتفت إلي هذا الهراء ، ولكنه صفع المكابر المتعنت المتعالم بالقاطعة الباترة من قوله عز وجل :
{ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (66) سورة آل عمران.
وقد كان من بين الذي علمه الله ولم يعلموه ، "آزر" هذه نفسها التي يحاجون بها القرآن ، كما سترى.

*******

أما الذي لا يعلمه كثيرون ، فهو أن علماء الآرامية والعبرية الذين عابوا "آزر" علي القرآن ، لا يعرفون إلي اليوم معني" تارح" إسم أبي إبراهيم في التوراة، لا يهتدون إلي الجذر المشتق منه في الآرامية والعبرية ، ولا يتفقون علي معني "إسرائيل" شهرة يعقوب عليه السلام، ويسيئون فهم معني اسم "موسي" عليه السلام بإصرارهم علي تفسيره بالعبرية " موشيه" علي زنة الفاعل في العبرية من " مشا" (ومقابلها في العربية مسا / يمسو بمعني سل أي أخرج، ومنه مسا الناقة يعني أخرج الولد من بطنها ميتا) فيخطئون النحو العبري، لأن مرادهم من التسمية أنه " الممسو" ( من الماء، إشارة إلي إلتقاط آل فرعون إياه من اليم) لا "الماسى" ( والماسي هو فرعون وآله لا موسى) ، والتسمية بالفاعل علي قصد المفعول غير واردة في العبرية، فالتفسير مفتعل. وهم أيضا لا يقطعون برأي في معني "هارون" ( أهارون في العبرية) اسم أخي موسي عليهما السلام، هل هو من الخفة والنشاط (من الجذر "أرن" ) أم هو من العلو والاستكبار والنفج (من الجذر"يهر") إلي آخر ما نعرض له فيما يلي من فصول هذا الكتاب، استكشافا لمعني العلم العبراني في القرآن. والذي يجب أن تعرفه أيضا، وبالأخص، أن أقدم نسخة للتوراة التي بين يديك لم تكتب علي عصر موسي وخلفائه، ولم تكتب علي عصر داود وسليمان، وإنما كتبت "من الذاكرة" بعد هدم الهيكل وعودة اليهود من سبي بابل. وأيا ما قلت في أمانة الكاتب وحفظه وتقواه، فأنت لا تحيل عليه الخطأ في الحرف والكلمة : آية ذلك ما تجده في حواشى التوراة العبرانية تعليقا علي صحة النطق في بعض الكلمات بعبارة: "كثيف .......... : قري .. ، من مثل "(أي كُتبت كذا وتُقرآ كذا) . ومن ذلك أيضا التردد في هجاء بعض الأعلام، من مثل " يوسف" ، التي كتبت "يهوسف" مرة واحدة لم يعلق عليها أحد. والذي يجب أن تعرفه أيضا أن النص العبراني للتوراة التي بين يديك، والذي مر بك أنه مستنسخ من الذاكرة إثر عودة بني إسرائيل من سبي بابل بعد حوالي ثمانية قرون من وفاة موسي عليه السلام. ظل أيضا نصا غير معجم، أي غير مقيد بالشكل والنقط ، يلحن فيه قارئه، مثقفا وغير مثقف، لا سيما بعد تراجع العبرية علي الألسنة وحلول الآرامية محلها في ربوع فلسطين منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد تصدى لتحقيق النص بالنقط والشكل والتعليق علي صحة النطق، في مدي ثمانية قرون، من القرن الثاني الميلادي إلي القرن العاشر، طائفة يدعون" يعلي ماسورا" أي "أهل الإثر" ، حفاظ المأثور المتلقن.

ولك أن تتصور ماذا يمكن أن يحدث لنص أعيدت كتابته من الذاكرة بعد وفاة موسي عليه السلام بحوالي ثمانية قرون، غير مضبوط بالشكل والنقط. وظل كذلك ، إلي القرن الثاني لميلاد المسيح، واستغرق" تحقيقه" بالشكل والنقط والتعقيب ثمانية قرون أخري فما اكتمل إلا في القرن العاشر الميلادي.
هذا وذاك يقوي لديك شبهة وقوع الإضافة والحذف في النص الذي بين يديك. أما الحذف، فهذا ما لا سبيل لك اليوم إلي إثباته. وأما الإضافة ، فإثباتها هين بين، تحفظ المسيحيون من قبل علي بعضها بالنسبة إلي أسفار برمتها سموها "أبو كريفا" أي المنحولة، وتستطيع أنت التحفظ علي كثير مما تضمنه صلب أسفار موسي الخمسة نفسها من سفاسف وشناعات لا يقبل ورودها في نص إلهي مقدس، ليس أشنعها زني بنتي لوط بأبيهما ليكون له منهما "نسل" كما مر بك. وهو يقوي لديك أيضا شبهة صرف النص في بعض مواضعه - بمجرد النقط والشكل – عن أصل معناه. وهو يقوي لديك أخيرا- وهنا بيت القصيد في مقاصد هذا الكتاب الذي نكتب – احتمال وقوع التحريف في نطق الأسماء الأعلام.

وتستطيع أن تقول الشئ نفسه – أو قريبا منه- في الأناجيل الأربعة المتدوالة، التي لم يخطها عيسي عليه السلام بيده، كما خط موسي عليه السلام بأزميله في الألواح، لولا أن أصحاب هذه الأناجيل لا ينسبونها ابتداء إليه، أي إلي عيسى عليه السلام: لم يملها عليهم، ولم يراجعوها عليه، وإنما هم ينسبونها إلي ذات أنفسهم، كتبوها من الذاكرة أيضا بعدما تمادت بهم السن، أو كتبها آخذون عنهم لم يروا المسيح ولم يسمعوا منه. وهؤلاء وأولئك لم يكتبوا ما نطق به المسيح بلغته (الآرامية – العبرية) وإنما ترجموا ما وعوه إلي لغة ليسوا من أهلها (اليونانية)، لا تستثني "لوقا" الطبيب اليوناني، لأنه بنى إنجليه علي ما سمعه منهم مترجما إلي اليونانية من قبل. وهذا يفسر لك بعض أخطائهم في الترجمة، سواء في ترجمة ما استشهدوا به من التوراة العبرية في الأناجيل اليونانية، أو في اختيار اللفظ اليوناني المناسب للمقابل العبري أو الآرامي هذا هين إثباته : ما عليك إلا أن تطابق اقتباسات الأناجيل من " العهد القديم" علي التوراة التي بين يديك. من ذلك ما تجد في سفر ملاخي من قوله : " ها أناذا أرسل ملاكي يهيئ الطريق أمامي" (ملاخي 3/1) المقتبسة في الأناجيل بعبارة: " ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك" (لوقا 7/27) مع تحفظنا علي ترجمة ملاخي في هذا النص إلي ملاكي العربية ، التي يعني بها المقتبس، يوحنا (أي يحيي عليه السلام ) نفسه، ويوحنا رسول أو نبي باتفاق لا ملك أو ملاك . علي أن الاقتباس ضعيف في أصله، لن ملاخي النبي كان يعني بها نفسه في النص التوراتي، لأن اسمه العبري هو نفسه نطقا وكتابة "ملاخي" التي تعني في العربية " ملاكي" أو "رسولى" ومثلها " انجلوس" Angelo's" اليونانية في الاقتباس الإنجيلي .

لقد ظنوا "باتر" ، Pater اليونانية (أي " الأب" الوالد لا غير) تصلح ترجمة للفظة "آب" العبرية – الآرامية حيثما وردت، علي ما بينهما في مجاز اللغات السامية ومنه معنى الفاطر المنشئ البارئ. وظنوا باسيليا Basileia اليونانية (وهي الملك والملكة) تصلح دائما أبداً لترجمة اللفظين العبريين الآراميين " ملخوت" و"ملاخوت" علي السواء، الأولي بمعني الملك والملكوت، والثانية بمعني الرسالة والرسول (علي ما مر بك في مقابلهما العربي) ، فيتجافي بك المنطق أن تفهم عبارة من مثل: "من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، (متي 13/19)، إلا أن يكون أصلها: " من يسمع كلام الرسول"، أو مثل عبارة: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السموات؛ ؛ ليتقدس اسمك ؛ ليأت ملكوتك"؛ (متي 6/9 و 10) التي تقرؤها فيأخذك العجب: وهل ملكوت الله عز وجل إلا حاضر في كل آن؟ أليس قد قال عليه السلام في تلك الأناجيل نفسها: "ملكوت الله فيكم" (لوقا 17/21) يعني نفسه، أي الرسول والرسالة؟ إذن فما معني طلبهم في صلواتهم : " ليأت ملكوتك ؛" ؟ أليس الأرجح أن يكون معناها : " ليأت رسولك؛"؟ يعني محمداً صلي الله عليه وسلم ، الذي بشر به عيسي عليه السلام مصداقاً لما جاء في القرآن علي لسانه : { وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } (6) سورة الصف. نعم ، قد استفاد من هذا – وغيره كثير- بطاركة يونانيو اللسان ذهبوا إلى "مجمع نيقية" عام 325م لإقرار ألوهية المسيح، علي نحو ما تعرف من عقيدة التثليث، أو " الثلاثة في واحد"، التي يدين بها المسيحيون إلى اليوم، ولكنه وضع مترجمي الأناجيل إلي مختلف اللغات، ومنها العربية بالطبع ناهيك بالمفسرين، في عسر شديد، من ذلك عبارة " وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلي الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله" (مرقس 1/14) وأصل عبارة " يكرز ببشارة ملكوت" في إنجيل مرقس اليوناني Kerusson to euaggelion tou theou ومعناها بنفس ترتيبها اليوناني " مبشرا بإنجيل الله"، ليس فيها " ملكوت" ، وليس فيها أيضا "بشارة" : أضاف المترجم "ملكوت" من عنده ليمنع إضافة البشارة إلي الله ، وترجم euaggelion ( وتنطق إيفانجليون) إلي " بشارة" . أما " يكرز" في النص العربي فليست عربية ( و بمعني أدق ليست هي يكرز العربية بمعني يلجا ويعتصم) . وليست هي أيضا عبرية، بل ليست سامية ،وإنما هي آرامية منحولة عن الفارسية ، التي جاءت منها Kerusson اليونانية بمعني يعلن ويبشر (قارن herald الإنجليزية ) ، ولكن المترجم العربي اضطر إلي استعمال تلك اللفظة الآرامية المنحولة كراهية التكرار في النص العربي ، كأن يقول "يبشر ببشارة" وهو ممجوج.. العبارة إذن في النص اليوناني ليست "يكرز ببشارة ملكوت الله" وإنما هي ببساطة "يبشر بإنجيل الله" . ولكن إضافة الإنجيل إلي الله تسبب مشاكل لا تخفي، إذ ما هي تلك البشارة التي هي لله؟ إنها الإنجيل نفسه، أي "إيفانجليون" اليونانية ، التي يفسرونها بالخبر السار؟ أو البشارة ومن قال إن (angelion + eu) اليونانية تعني الخبار السار؟ أليس "أنجليون" angelion اليونانية معناها الرسالة والرسول مثلها مثل "ملآخوت" الآرامية – العبرية، ومنها " أنجلوس" angelos يعني الملك ، أي الرسول؟ إلا إذا ظننت أن اليونان يسمون الملك "المخبر"، وهذا غير صحيح بالطبع. ومن قال إن المقطع اليوناني (eu) يعني "السار" ؟ ليس له بالسرور أدنى صلة . وإنما معناها حين تكون بادئة في الكلمة، " المرضي المحمود"، كما في (eulegein) اليونانية ، بمعني حمده وأثني عليه. ولو ترجمت " إيفانجليون" اليونانية إلي العبرية (وأنت تعلم أن أنجليون تعني الرسالة) لقلت "ملآخوت حمد" . أفيكون المعني "رسالة أحمد" ؟ ربما.

ليس لديك الدليل في هذه أو في غيرها: ليس لديك النص الأصلي لأقوال المسيح عليه السلام بلغته ولغة قومه (العبرية – الآرامية). وإنما لديك ترجمة يونانية لعبارات ربما قالها عليه السلام، ولكنك لا تقطع بصحة الترجمة إلا أن تطابقها علي الأصل العبري- الآرامي، وهو غير موجود للأسف.

ومهما سلمت بأن رسل الله جميعا قادرون علي الحديث بكل لغة يلهمون الحديث بها، فأنت تحيل علي المسيح عليه السلام أن يتحدث مع المرسل إليهم وإلي أهله وعشيرته وحوارييه بلغة يونانية لا يفهمونها ، لا سيما حين يتحدث في صلب الرسالة والعقيدة. من ذلك حديثه علي السلام عن الذي يأتي بعده، الذي إن لم يذهب. لا يجئ . أعني "الفرقليط" Parakletos في الأناجيل اليونانية) غير الموجودة أصلا في لغة اليونان قبل عصر المسيح ، والتي حار في فهمها تراجمة الأناجيل إلي مختلف اللغات ، هل هي المعزي أم الناصر أم الشفيع أم المحامي. والأصوب أن يقال إنها عبرية آرامية ، تركت في إنجيل يوحنا اليوناني علي أصلها ، بعد تهذيبها إلي صورتها اليونانية Parakletos نحوا ونطقا : إنها إذن إسم مزجي مركب " فرق + ليط " (التي تنطق فاؤها البادئة في العبرية – الآرامية باء ثقيلة "P" كما مر بك) فهي " برقليط" آراميا وعبريا. الشق الأول "فرق" جذر آرامي- عبري بمعني حط عنه ووضع، أي حط عنه الذنب أو الخطئية (قارب "فرك" العربي بمعني حكة ليزيل عنه وسخاً علق به). والشق الثاني من الجذر العبري الآرامي "لاط / يلوط " بمعني ستره وحجبه وغطاه (قارن "لاط /يلوط"، لط/ يلط" العربيتين بمعني ستره وأخفاه) , أو هي بمعني لزق به وعلق (وهي " لط" العربية أيضا) كما يعلق الذنب وتعلق الخطيئة . الشق الأول "برق" ينطق "بارق" (بإطالة مد كسرة الراء) زنة الفاعل آراميا من "برق"، فهو الحاط الواضع الكاشف، والشق الثاني" لاط" ينطق " لايط" ( بإطالة مد كسرة الياء)، زنة الفاعل آراميا أيضا من "لاط". فهو في الأصل "بارق+لايط، يعني " كاشف الحجاب" أي " كاشف الغشاوة " (ولالكاشف من أسمائه صلي الله عليه وسلم)، أو هو " واضع الذنب والإصر"، ولكن المزجية أحالت النطق إلي " برقليط" (مداً بالكسر لا بالياء). يقوي هذا الفهم بشاهد من أهلها وجود "برقليط" هذه ( مداً بالياء لا بالكسر) في العبرية المعاصرة بمعني المحامي الذي يقف إلي جانبك يحاول " إساقط" التهمة عنك، والتهمة هي مظنة الخطأ و الذنب . " الفرقليط" إذن هو " واضع الإصر" أي محمد صلي الله عليه وسلم...
{ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (157) سورة الأعراف والإصر من معانيه "الذنب" كما تقرآ في تفسير القرطبي.

*******

انقطعت سلسلة السند إذن في التوراة وفي الإنجيل . ولكن الانقطاع في الإنجيل أفدح . لأن القائل في الإنجيل رواة يتحدثون غير اللغة. يزيد من فداحة هذا أن الإناجيل كثيرة، قاربت فيما يروي ثلاثمائة إنجيل تتفق وتختلف، اعتمدت منها الكنيسة بعد استقرار عقيدة التثليث تلك الأناجيل الأربعة التي بين يديك لا سبيل لك اليوم إلي ما كان في غيرها ، فقد حرمت وطوردت وأعدمت بل حتي ما ظهر منها بعد ذلك ، كالإنجيل المسمي " برنابا" المكتشف حوالي القرن الثامن عشر بلغةٍ إيطاليةٍ تسكانية، مهما اتفقت كمسلم مع الكاتب في مضمونه، لا تستطيع الارتفاع بنسبة ما جاء فيه يقينا إلي المسيح عليه السلام، لا لشئ إلا لكونه مكتوبا - علي الترجمة – بلغة غير لغته عليه السلام، شأنه شأن الأناجيل الأربعة المتداولة نفسها . لا أكثر ولا أقل!

وليس كذلك " القرآن" ، المقطوع من الخصم ومن الصديق علي السواء بنسبة تلاوته إلي محمد صلي الله عليه وسلم بنصه " العربي" الذي بين يديك الآن ، لا خلاف علي حرفه ولفظه ، المكتمل نزوله حوالي سنة 632م ، وتلاه صلي الله عليه وسلم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة ، علي الكاتبين من صحابته، يكتبون ويراجعون عليه ما كتبوا، والمجموع في المصحف الذي بين يديك مراجعا علي حفاظه وكتبته ولما ينفض عقدان علي وفاته صلي الله عليه وسلم . نعم لم يكن " المصحف الأم" مصحف عثمان ، مضبوطاً بالشكل والنقط ، ولكنه "مقروء" عليه هو نفسه صلي الله عليه وسلم بقراءة أقرها، كل ما عداها مردود. ولم يظل "مصحف عثمان" غير مقيد بالشكل والنقط حوالي 2200 سنة كما وقع لتوراة موسي عليه السلام ، وإنما ضبط بالشكل والنقط علي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ولما تنقض سبعون سنة علي وفاة النبي صلي الله عليه وسلم. وهو لم يضبط بالشكل والنقط علي عصر اضمحلال الفصحي وتراجعها علي الألسنة ، كما وقع لعبرية التوراة منذ القرن الثالث قبل الميلاد بعد حوالي ألف سنة من نزول التوراة، ولكنه ضبط بالشكل والنقط وعربية القرآن هي لغة الخاصة والعامة ، بل وهي مقياس عربية العرب.

نعم، يستطيع المكابر المعاند أن ينكر الوحي علي القرآن، شان كل كافر بوحي السماء، ولكنه لا يستطيع التسليم بالوحي لما بين يديه من الكتب السابقة وهو ينكر الوحي علي القرآن، لأن إنكار الوحي علي القرآن إبطال لدعوي الوحي كله: قد ضاعت أدلة الوحي الأول بضياع معجزات الأنبياء السابقين، وبقي القرآن – المعجزة بذاته – شاهدا أوحد علي معجزات كل من سبقوه.

وتستطيع أيضا – منصفاً غير متعنت – أن تدفع بانقطاع السند في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك. وتستطيع أيضا- مصيبا غير مخطئ - أن تدفع بضياع الأصل الآرامي- العبري الذي ترجمت عنه أقوال المسيح عليه السلام في تلك الأناجيل اليونانية الأربعة. بل وفي إنجيل برنابا أيضا. ولكنك لا تستطيع أن تفعل هذا أو بعضه مع القرآن إلا وأنت موتور، غير مصيب: لا شك في حرف واحد من حروف القرآن... الأصل، واللغة، والسند... من هنا تفهم قوله عز وجل في وصف القرآن: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (48) سورة المائدة ، يعني القرآن يصدق "ما صدق" في التوراة والإنجيل، أي هو الشاهد لهما بالصواب حين الإصابة ، أما عند الاختلاف فالقرآن هو المصوب الفيصل البات، قوله الحق.

وتستطيع أن ترتب علي هذا أيضا أن القرآن لا يحاج بما في التوراة والإنجيل، ولكنهما هما اللذان يحاجان به عند الاختلاف. قال عز وجل : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (46) سورة العنكبوت.

(5)

يجئ العلم الأعجمي في القرآن علي ثلاثة أنواع : علم الذات ، و علم الجنس ، وعلم الموضع...
أما " علم الذات" فهو أسماء الأشخاص، ملائكة وأنبياء وصديقين، وملوكاً وجبابرة وطواغيت ، وربما أضفت " إبليس" اللعين- هامة العصاة – إن سلمت بعجمة " إبليس" وسيأتي.
وأما " علم الجنس" فهو أسامي القبائل ، منها بائد كعاد وثمود، ومنها الذي غيبه الغيب كيأجوج ومأجوج، وأسامي الشعوب، ورد منها في القرآن " الروم". وربما أضفت أهل الملل علي النسب. اليهود، والنصاري، والصابئين، والمجوس. ولكنك تضيف حتما تحت " علم الجنس" أسامي كتب ثلاثة : التوراة والزبور والإنجيل، علي خلاف في عجمة الزبور.
أما " علم الموضع" فأسامي الأماكن والبلدان، أمثال مصر ومدين وإرم (ذات العماد). وربما جازت إضافة "فردوس" و "عدن" استقصاء لشبهة عجمتهما، وربما أيضا "جهنم" (المقول بأنها "جي – هنوم" العبرية).
وفي باب العلم علي الذات ، تندرج أسامي الملائكة رضوان الله عليهم، وقد سمي القرآن منهم خمسة : جبريل، ميكال، مالك ، هاروت ، ماروت ، ولا يعلم جنود ربك إلا هو.
وتندرج في باب العلم علي الذات أيضا أسامي الأنبياء والصديقين رضي الله عنهم ورضوا عنه، بدءا بآدم أبي البشر وانتهاء بعيسي المبشر بخاتم النبيين، صلوات الله وسلامه علي رسله وأنبيائه ، وهم : آدم ، ادريس ، نوح ، هود ، صالح ، شعيب، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، (وشهرته إسرائيل)، يوسف ، موسي، هارون، داود، سليمان، إلياس، اليسع، ذو الكفل، يونس ، أيوب، عزير، لقمان، زكريا، يحيي ، مريم، عيسي، فهؤلاء سبعة وعشرون شخصا علما، علي خلاف في نبوة بعض وصديقية بعض، وفي عجمة الاسم وعربيته، تزذاد إلي ثمانية وعشرين بإضافة "اسرائيل" شهرة يعقوب عليه السلام.
أما الملوك والجبابرة ، فمن أعجميها في القرآن اثنان: طالوت، ملك بني إسرائيل، (شاءول في التوراة). جالوت، جبار الفلسطينين، (وهو في التوراة جليات).
وأما المقبوحون في الدنيا والآخرة، الكفرة البغاة الطغاة، فقد سمي القرآن منهم أعلاماً أربعة : آزر، فرعون، هامان، قارون، وربما أضفت رأس الضلالة إبليس اللعين، استقصاء لعجمته، فيكون مجموعهم خمسة أعلام.

وأما العلم علي الجنس في أعجمي القرآن، فمن القبائل أربعة : عاد، ثمود، مدين، يأجوج، مأجوج، ومن الشعوب واحد : الروم. ومن الكتب ثلاثة : التوراة، الزبور، الإنجيل (وإن كانت الزبور عربية كما ستري) .وربما أضفت علي النسب أهل الملل الأربع : اليهود، النصاري، الصابئين، المجوس، فيكون مجموع هذا الصنف اثني عشر علما.
ولما نذكر في علم الجنس" سبأ" ، كما لم نذكر في علم الذات " تبع" ملوك اليمن ، لعربية هذين العلمين بلا خلاف.

أما علم الموضع، أي اسامي الأماكن والمواقع، والمنازل والقري والبلدان، فمن الأماكن والقري والبلدان أربعة: بابل، إرم ، مصر، سيناء. ومن المواقع واحد: الجودي (مرسي نوح). ومن المنازل ثلاثة : الفردوس ، عدن، جعلنا الله من أهلهما بمنه وفضله، و .... جهنم، أعاذنا الله منها . فيكون مجموع هذا الصنف ثمانية أعلام.

ويلاحظ أنه لم يرد في القرآن من أعلام النساء سوي اسم واحد، هو مريم أم عيسي عليهما السلام(لا أخت موسي وإن تشابه الإسمان)... ولكن القرآن أشار إلي نساء أخريات علي النسب إلي الابن أو الزوج، وهن خمس : ثلاث فضليات، أم موسي، امرأة فرعون، امرأة عمران (جد عيسي، وليس أبا موسي وإن تشابه الإسمان)، وثنتان من الحائنات ، امرأة نوح، امرأة لوط، وليس في المنسوب إليه علم جديد يضاف إلي ما ذكرناه سوي عمران جد المسيح صلوات الله عليه وعلي رسل الله أجمعين.

وهذا يرتفع بالعلم الأعجمي، أو المقول بعجمة أصله، الذي نعرض له في هذا الكتاب، إلي واحد وستين اسماً علما.

(6)

الأعلام الأعجمية المذكورة في القرآن ورد أغلبها علي أصل لفظه الأعجمي في أسفار اليهود والنصارى، أو –اختصارا- في التوراة والإنجيل.
وقد ضم المسيحيون أسفارهم إلي أسفار اليهود (علي خلاف بينهم في إنكار بعض وإضافة بعض) في مجلد واحد من جزأين هما " العهد القديم" (التوراة) و"العهد الجديد" (الإنجيل)، تحت اسم "الكتاب المقدس" (لذا خص القرآن أهل الملتين باسم "أهل الكتاب" لا يدخل فيه غيرهم)، سلموا لهما جميعا بالوحي من الله، ليس فقط لأن اللاحق يبني علي السابقة فحسب كما مر بك، وإنما أيضا وبالأخص إتباعا لقول المسيح عليه السلام في الأناجيل : ما جئت لأهدم الناموس (أي التوراة)، وإنما جئت لأكمل (أي بالإنجيل).
أما اليهود فهم بالطبع لا يسلمون بالوحي لكتابات"العهد الجديد"، وإلا لما بقوا علي يهوديتهم. وهم لا يسلمون بالوحي أيضا لأسفار أضافتها الكنائس المسيحية إلي أسفارهم المعتبرة عندهم (علي خلاف في هذا بين الكنائس المسيحية ومثاله سفر " يشوع بن سيراخ" الذي ينكره اليهود وتعتبره الكنيسة الكاثوليكية ، ولا تعتبره الكنيسة القبطية الأرثوذكسية).
وقد توقفت "النبوات" في بني إسرائيل قبل قرون من مولد عيسي عليه السلام. ومن هنا يفهم خلو أسفار التوراة من النص علي أعلام المسيحية الأربعة: زكريا، يحيي (يوحنا) ، مريم ، عيسي ، عليهم السلام. ولم تذكر أيضا عمران جد عيسى.

******

ويلاحظ أن أسفار "العهد القديم" (أي التوراة) مكتوبة كلها بالعبرية، ما عدا أجزاء قليلة كتبت بالآرامية رأسا أو متأثرة بها، منها عبارات في سفر التكوين نفسه، أول أسفار العهد القديم، ومنها بعض إصحاحات متفرقة في أسفار ثلاثة هي أسفار ارميا، ودانيال، وعزرا (عزير في القرآن). وإذا علمت أن عزرا، كاتب "شريعة الله" بعد سبي بابل - كان من أعلام القرن الخامس قبل الميلاد، فقد علمت مدي طغيان هذه الآرامية علي ألسنة الناس، حتي حلت تماما أو تكاد محل العبرية في ربوع فلسطين منذ ثلاثمائة سنة علي الأقل سبقت مولد المسيح، فكان بها جل كلامه عليه السلام.
ولكن أسفار "العهد الجديد" لم تكتب بالآرامية أو العبرية أو بمزيج من هذه وتلك، وإنما الموجود منها بين يديك الآن مكتوب كله- عدا بضع كلمات آرامية أو عبرية- بلغة "يونانية " متأخرة، تعرف باليونانية " الكنسية" ، لاصطناعها ألفاظاً وتراكيب لم تسمع في اليونانية قبل عصر المسيح. ومهما قيل من أن انجيل "متي" وبعض رسائل الحواريين والآخذين عنهم قد كان لها أصل عبراني ترجمت منه إلي تلك " الأصول" اليونانية التي بين يديك ، فهذا الأصل "العبراني" مفقود، لا سبيل لك إليه لتطابقها عليه : ليس لديك من " العهد الجديد" سوي هذه الأصول اليونانية التي بين يديك ، وترجمات منها مباشرة إلي مختلف اللغات.

***

ولئن كان موضوع " العهد الجديد" هو رسالة عيسى عليه السلام، آخر رسل الله إلي بني إسرائيل، فهو لا يسمي فقط أعلام المسيحية المذكورين في القرآن، ولكنه يتحدث أيضا بالتوراة فيذكر بعضا من أعلامها الذين سماهم القرآن. ولأن " العهد الجديد " يوناني اللسان، فهو حين يذكر أعلاما من التوراة يسميهم بالطبع علي اللفظ اليوناني ، لا اللفظ الآرامي- العبري. ومن هنا اختلاف نطق العلم " الانجيلي" عن سميه في التوراة.
من ذلك أن اليونان لا ينطقون الشين، فابدلوا كل شينات التوراة سينا. واليونان أيضا لا يستطيعون الحاء والعين. ويهمسون الهاء، فأهملوها جملة، إلا أن تكون الحاء والعين بادئتين، فتبدل منهما الهمزة، وفي اليونانية كذلك علامات " إعراب" ، منها إضافة السين للرفع وإضافة النون للنصب، فتظهران هذه أو تلك في نهاية الاسم العلم بحسب موقعه من "الإعراب" في الجملة، ويظنها من لا يعرف أصل الاسم جزءا منه: فعلوا هذا في أعلام التوراة وفي أعلام الإنجيل. من ذلك "يونا" (يونس في القرآن)... يونانيتها "يوناس" Ionas ( السين للرفع) وهي نفسها "يونان" التي قرؤها في الترجمات العربية للعهد الجديد، أخذوها بصورة الاسم منصوبا. من ذلك أيضا "يوحنا" (يحيي في القرآن): ذهبت حاؤه، وأضيفت سين الرفع فصار Ioannes أي "يؤنس". ناهيك بالاسم العلم الأكبر في المسيحية ، عيسى عليه السلام، وأصله العبري "يشوع" فصار "يسوس" في الرفع، و" يسون" في النصب، و "يسو" في غير ذلك.
رغم أن " مسيحي الشرق" ساميون يستطيعون نطق أعلام الإنجيل علي أصل لفظها العبري- الآرامي، فقد التزموا في حالات كثيرة الاقتراب من رسمها اليوناني في العهد الجديد، ضاربين صفحاً عن أصلها العبري- الآرامي، وإن خالف الرسم اليوناني أصل الاسم في التوراة. وما كان لك أن تتوقع غير هذا وهم يقرأون في صلواتهم من إنجيل يوناني، يحتاج فهمه وتدارسه إلي علم كاف بتلك اللغة.

وقد كانت اليونانية هي اللغة " الرسمية " للكنيسة طوال قرون المسيحية الأولي: بها كتبت مباحث اللاهوت، وبها دارت المناظرات واحتدم الجدل . أضف إلى هذا – بل قل قبل هذا – الرغبة في " التبرك" الناشئ عن التقديس، علي كتبة الإناجيل، وهو يرتب علي هذا أن الله هكذا تكلم، أو هكذا أوحي، بتلك الاعلام في لفظها اليوناني وبرسمها المكتوب في تلك الأناجيل اليونانية ، أو في أقل القليل أن الانجيلي، " كاتب الوحي" ، كتب ما كتب و " روح القدس" عليه، إنه إذن كلام مقدس لا بمصدره فحسب، وإنما بأصل لفظه أيضا في رسمه اليوناني الذي جري به قلم الكاتب. ولعلك تعلم أيضا أن أسفار" العهد القديم" ، أي أسفار التوراة ، قد كانت لها قبل عصر المسيح ترجمات إلي اليونانية أشهرها قاطبة الترجمة السبعينية، التي سبقت مولد المسيح بنحو ثلاثة قرون، موجهة إلي يهود الاسكندرية ومتهوديها، وإلي من "تأغرق" منهم في غيرها، الذين أنسوا عبرية التوراة. وقد تضمنت الترجمة بالطبع تحويل صورة العلم التوراتي عن أصله العبري- الآرامي إلي " صورة" يونانية ، جرت بالتأكيد علي ألسنة " متأغرقي" اليهود لا في أوربا فقط بل وفي مصر والشام أيضا.
وتستطيع أن تقول – مصيبا غير مخطئ – أن كتبة الأناجيل اليونانية استفادوا من هذا الرسم اليوناني" الجاهز" في الترجمة السبعينية فنسجوا علي منواله في " العهد الجديد". وتستطيع أن تقول أيضا إن كتبة الإنجيل حين اقتبسوا من التوراة نصوصاً يستشهدون بها في العهد الجديد. لم يرجعوا إلي أصل التوراة العبراني، وإنما رجعوا رأساً إلي تلك "السبعينية"، يستقون منها ترجمتهم اليونانية لما أرادوا اقتباسه من التوراة . وهذا يفسر لك سببا من أسباب عدم تطابق بعض تلك الاقتباسات مع أصلها في التوراة كما مر بك ، لأن في " السبعينية " أخطاء استدركت بعد عصر المسيح بقرون.

ولأنك – مسيحيا كنت أو مسلما – تحيل علي المسيح صلوات الله عليه أن يخطئ في الاقتباس من التوراة في عبارات نسبت الأناجيل اقتباسها إليه، فليس أمامك إلا التسليم بأن كتبة الأناجيل اليونانية كتبوا ما كتبوه بوحي من ذاكرة تسعف وتخون، أو رجعوا إلي الأصل العبراني ولكنهم لم يحسنوا الفهم أو الترجمة، أو تعجلوا فاستخدموا ترجمات يونانية جاهزة شاعت من قبل، أو أنهم كتبوا لجمهور يوناني اللسان، جادلوه بما يقرأ من ترجمات يونانية للتوراة في السبعينية أو في غيرها. وربما اشتطت بك الغلواء فقلت إن كتبة الأناجيل اليونانية الأربعة أو معظمهم، وبالذات لوقا ويوحنا، ما كانوا يتقنون العبرية شأنهم شأن يهود مصر والشام علي عصر المسيح، وما كانوا بالتالي يقرأون من توراة عبرية، بل من ترجمات لها. هذا وذاك أبرأ لدينك من أن تقول أصاب كتبة الأناجيل وأخطأ المسيح معاذ الله – ناهيك بروح القدس جبريل- صلوات الله وسلامه علي جميع ملائكته وأنبيائه.

(7)

يحدثك سفر التكوين – أول أسفار التوراة- عما كان من شأن آدم عليه السلام وزوجته في الملأ الأعلي، وعن الجنة التي " أزلهما الشيطان عنها" فأهبطوا إلي الأرض جميعاً . كما يحدثك عما كان من شأن "قاين" و "هبل" (قابيل وهابيل في المراجع الإسلامية) ابني آدم الأولين، ويسمي " شيث" ابنه الثالث وذريته إلي نوح وإبراهيم، ثم يمضي علي عمود النسب حريصا علي كل الحرص، لا يترك علما من أعلامه إلا ويصعد به إلي آدم أبي البشر. وقد ورث " العهد الجديد" هذا الحرص (راجع الإصحاح الأول من متي والإصحاح الثالث من لوقا)، تنصيصا علي موضع المسيح من عمود النسب الذي يصعد به إلي "آدم بن الله"...

(هكذا كتب لوقا في إنجليه : آدم بن الله؛ (لوقا 28:3) وقوفاً بعمود نسب المسيح عند آدم لا يتجاوزه إلي الله عزوجل، الذي لم يلد آدم بالطبع وإنما صنعه "بيديه" كما تنص التوراة. ومن قبل قال كتبة التوراة "أبناء الله" (تكوين: 1:6و4). وهذا كله لا يؤخذ علي أصله وإنما يؤخذ بمجازه المقصود منه في اللغات السامية ومنها الآرامية والعبرية، ولم يفطن إليه في " مجمع نيقية" بطاركة يونانيو الفكر واللسان : الأب مجاز علي الأصل والمنشأ، أي الله المبدع الفاطر البارئ ، والابن مجاز علي النسب إلي الصانع"الباني" مصداق هذا (راجع المعجم التحليلي العبري – الآرامي المذكور في حواشي هذا الكتاب) أن لفظة " بن" العبرية- الآرامية منحوتة علي المفعولية من جذر الفعل العبري- الآرامي " بنا" (وهي بني/ يبني العربية)، ولكنك لا تهدي من أحببت).

والذي يستوقف النظر- في مقاصد هذا الكتاب علي الأقل- أن الأعلام علي عمود النسب من آدم إلي نوح (وهم ليسوا عبرانيين بالقطع)، ناهيك بالملأ الأعلي، هي في التوراة أعلام عبرية – آرامية . والتوراة لا تقف عند إيراد الاسم عبرانيا آراميا، وإنما هي أحيانا كثيرة تفسره بالعبرية، لا علي الترجمة ، فالاسم الذي تفسره عبراني- آرامي في أصله، وإنما علي البيان، أي أنها تدلك علي مناسبة التسمية وسببها . بعض هذه التفاسير مقبول ، وبعضها مفتعل، من مثل: "ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي" (تكوين 20:3) وحواء كما تعلم ليست "أم كل حي" بإطلاق، وإنما هي أم كل حي من البشر فحسب، باستثناء "آدم" بالطبع.

والأكثر استيقافا للنظر- لاسيما في آدم والملائكة من مثل جبريل وميكال رضوان الله عليهم- أن القرآن يتابع التوراة علي تسمياتها هذه لهؤلاء الأعلام الثلاثة ، بل قد أثبت القرآن لآدم اسمه هذا العبري – الآرامي علي النداء من الله عز وجل : {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } (19) سورة الأعراف.
أفكان آدم رجلا عبرانيا أو آراميا ؟ كيف، وهو أبو كل البشر؟
أفكانت العبرية أو الآرامية هي اللغة التي علم بها آدم " الأسماء" كلها ؟ أكانت هذه أو تلك هي لغة الملأ الأعلي؟ أكانت هذه أو تلك هي اللغة الأولي التي هبط بها آدم من الجنة؟
ليس لك أن تخوض في لغة الملأ الأعلي. هذا من غيب الله... ليس لك أن تفترض ضرورة وجود " لغة" لفظية – صوتية ما، أيا كانت، أداة للتلقي والفهم والخطاب فيما بين الملأ الأعلي. ليس لك أن تخوض فيما لم يعلمك الله.
أما لغة آدم التي تكلم بها علي الأرض مهبطه من الجنة، فالراجح عندي - ولا أُلزمك إياه - أنها هي نفسها اللغة التي علم بها آدم الأسماء في الملأ الأعلي، لاسيما اسمه هو نفسه الذي خاطبه به الله في الجنة، وثبت له علما في الأرض بين زوجته وبنيه. والذي أقطع به - ويلزمك المنطق الصرف إيا ه- أن ثبوت العلمية لأبي البشر في الجنة وعلي الأرض - وكذلك لجبريل وميكال - بأسماء لا تفسر إلا بجذور ألفاظ تستخدمها اللغات السامية إلي الآن، يعني أن لغة أبي البشر آدم كانت لغة سامية ما ، بل قد كانت هي أم اللغات السامية جميعا، أو ان اللغات السامية –دون سائر اللغات - هي الأحفظ لما بقي من لغة آدم بعد ما تفرقت في لغات البشر. لا أقول لك – وإن كنت أرجح – أن العربية الأولي، قبل أن تتطور إلي اللغة التي نزل بها القرآن، قد كانت هي لغة آدم. يكفي العربية فخرا أن قد كان بها ختام كلام الله إلي أهل الأرض: يكفي العربية فخرا قرآنها.

أما لماذا يتابع القرآن التوراة في تسمياتها العبرية- الآرامية، وإن تعلقت بذوات غير آرامية وغير عبرية البتة، من مثل الملائكة رضوان الله عليهم، ومن مثل الأنبياء من آدم إلي نوح، فيعرب صورتها الآرامية – العبرية علي نحو ما وردت في الصحف الأولي، ولا يعربها عن الصورة المجهولة لنا الآن التي كانت عليها في لغة أصحابها قبل مولد هاتين اللغتين الآرامية والعبرية، فهذا هو منطق " العلمية" كما مر بك: قد سبق الوحي الأول بتلك الأعلام علي صورتها في التوراة فثبتت، أي صارت علما علي الذات التاريخية لأصحابها ، إن عدلتها ولو بقصد التصحيح فقد حرفت ، بل لما جاز: قد ضللت سامعك إذن، ونكرت عليه شخص الذي تعني.

ولكن القرآن في تفسيره الفذ لأعلامه الأعجمية يعمد أحيانا إلي التفسير بالتعريب وحده، كما ستري في " ميكال" صلوات الله عليه، فيجمع بين المعني وبين الصورة التي استقر عليها الاسم العلم، في مزيج جل من أوحي.

***

من خصائص العربية التنوين في الأسماء، أي الوقوف بالاسم- في اللفظ لا في الرسم- علي نون ساكنة تلي حركة الأعراب. ولعلماء العربية وعلماء الصوتيات أيضا وجوه في " تعليل" التنوين، ليس موضعها في هذا الكتاب.
وقد شذت كما تعلم صور وأوزان وأعلام، منع تنوينها. والاسم الذي يقبل حركة الإعراب ويمتنع تنوينه، يسميه النحاة "الممنوع من الصرف".
والاسم الممنوع من الصرف – الاسم المعنوي والاسم العلم- لا يمتنع تنوينه فحسب حيث يجب التنوين، وإنما أيضا يجر بالفتح في موضع الكسر.
ولأن الأصل في " العلم الأعجمي" منعه من الصرف "للعجمة"، فما كان أيسر عليك أن تحصي العلم الأعجمي في القرآن استنادا إلي هذه القاعدة وحدها ، فتسلم بعجمة تلك الأعلام التي امتنع تنوينها حيث يجب التنوين ، أو جرت بالفتح في موضع الكسر، ثم ترفض دعوي العجمة في غيرها.
ولكنك لا تستطيع الاستناد إلي هذه القاعدة وحدها في التسليم بدعوي العجمة أو رفضها ، فقد " صرف" العرب - أي نونوا وجروا بالكسر- أعلاما أعجمية لخفة أوزانها، تجد منها في القرآن " نوحا", "لوطا" المقطوع بعجمتهما، ومنعوا من الصرف في المقابل أعلاما مقطوعاً بعربيتها مثل " أحمد" لمجيئه علي وزن " أفعل" الممنوع من الصرف. تجد علي هذا الوزن في القرآن " آدم" ، " آزر" الممنوعين من الصرف في كل القرآن، فلا تدري أمنعا من الصرف للعجمة أم للوزن.

كذلك يمنع من الصرف في العربية للعملية والتأنيث، أي العلم المؤنث، مثل " فاطمة"، "زينب" عربيا كان الاسم العلم أم أعجميا، ومثاله من الأعجمي المؤنث في القرآن الاسم "مريم" ، الممنوع من الصرف في كل القرآن للعملية والتأنيث قبل العجمة، فلا تقطع بعجمته مستندا إلي منعه من الصرف فحسب، وإنما تنتظر حتي تؤصل الاسم في لغة صاحبه.
يمنع من الصرف أيضا للعملية والتأنيث قبل العجمة أسامي القبائل، إلا إذا أردت" القبيلة" أي القوم، ولم ترد" الحي" أي الموضع. من هذا في القرآن أمثال "ثمود"، "مدين"، الممنوعتين من الصرف في القرآن. ولكن " ثمود" ، "مدين" لايمنعان من الصرف في القرآن علي الموضع فحسب، وإنما هما ممنوعان من الصرف في كل القرآن حتي حين يراد منهما " القبيلة" صراحة، أي القوم ، بدلالة ورودهما علي جمع المذكر صريحا، في مثل قوله عز وجل :
(وإلي ثمود أخاهم صالحا)، (وإلي مدين أخاهم شعيبا)، فتستدل من هذا علي أن "ثمود" ، "مدين" لفظان أعجميان منعا من الصرف للعجمة . " أما "عاد" فصرفت لخفة الوزن فحسب. إلي غير ذلك من موانع الصرف وشواذه مما لا نستطرد بك إليه، لأن مرادنا التمثيل فقط. علي أن كثرة الشواذ في القاعدة لا تبطل حكمها، متي راعيت إعمالها بضوابطها. مثال ذلك أن تنعدم في الاسم كافة موانع الصرف إلا العجمة، كأن يكون اسما علما مذكرا، من مقطعين فأكثر، علي زنة لا يجوز فيها إلا الصرف. عندئذ تكون العجمة هي الوجه الوحيد لامتناع صرفه. من هذا الاسم غير منازع.
ولكن عربية الاسم لا تعني عربية " صاحبه" بدليل عجمة من أرسل إليهم: ثمود. لأن " ثمود" أو بالأحرى "قري صالح" ، لم تكن جغرافيا علي عصر صالح عليه السلام من منازل العرب الناطقين بالعربية التي نزل بها القرآن. كان صالح النبي آراميا من قوم آراميين، ولكن اسمه الآرامي "صاليح" (والمد فيها بعد اللام مد بالكسر لا مد بالياء)، تواطأ لفظه ومعناه مع " صالح" العربية في القرآن. فصرف لخفة وزنه. وربما كانت " صالح" أبين الأمثلة علي أسلوب القرآن في التفسير بالتعريب، وسيأتي هذا في موضعه.

وردت في التوراة أعلام أنبياء لم يذكرهم القرآن، مصداقا لقوله عز وجل:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ َ} (78) سورة غافر. وبالمثل، سمي القرآن أنبياء ثلاثة لم تذكرهم التوراة ، ولم تذكرهم أيضا الأناجيل ، وهم "هود" ، "صالح"، "شعيب".
وسمي القرآن أيضا "إبليس" المختلف في عجمته، ولم ترد في التوراة إلا "ساطان" (شيطان)، المترجمة في الأناجيل اليونانية إلي "ذيبلس"Diabolos وإن كانت الترجمة اليونانية غير دقيقة، لأن "ذيبلس" تعني " الرجيم" ، لا العدو أو المناوئ الذي تعنية "ساطان" العبرية – الآرامية . ويزعم أدعياء الاستشراق، وتابعهم للأسف علماء عرب، أن القرآن نحت "إبليسه" من ذيبلس اليونانية هذه ، كما عرب من قبل " ساطان" العبرية إلي " شيطان"، دون أن يدري أن الأولي ترجمة للثانية ، لا أكثر ولا أقل.

والملاحظ أن " إبليس" ممنوعة من الصرف في كل القرآن، لا يلحقها قط التنوين، ولا تجر إلا بالفتح. والمنع من الصرف كما تعلم من دلائل العجمة ، ولكنه ليس بدليل كاف في " إبليس" بالذات، لمجيئه علي زنة" إفعليل" ،وهو وزن نادر في العربية ، واقترنت الندرة بالعلمية فأشبه الأعجمي، فمنع صرفه.

والرأي في "إبليس" وأمثالها ، مما أخبر به الله عز وجل في القرآن علي غير سابقة في التوراة والانجيل، ومنه من الأنبياء هود وصالح وشعيب، أو من الملائكة مالك وهاروت وماروت، صلوات الله وسلامه علي ملائكته وأنبيائن، أنها من أنباء الغيب غير المتحدث به في التوراة والإنجيل اللذين بين يديك اليوم،وأن القرآن الذي لا يحاج بما في التوراة والإنجيل ، لا يحاج من باب أولي بما ليس فيهما.علي أن لنا في "إبليس" رأيا آخر، يأتي في موضعه.

أما ما جاء من أعلام القرآن علي المخالفة الصريحة لنظراتها في التوراة والإنجيل ، فمنها مرسي سفينة نوح عليه السلام، "الجودي" ، وهي في التوراة" آراراط"، وفي " تارح" وحرفته الأناجيل اليونانية إلي "ثارا" Thara (انظر النص اليوناني الأصلي لإنجيل لوقا 34:3)، ومنها أيضا " طالوت" المسمي في التوراة "شاءول". ومنها "يحيي" عليه السلام، المرسوم في النص اليوناني للأناجيل بالرسم" يونس" Ioannes علي أصل عبري مظنون هو "يوحنان" أو آراميه " يوحنا" أبدلت حاؤه همزة (سهلت لكونها غير بادئة)، وختم – علي خلاف صورته الآرامية – بالكسر لا بالفتح، وأضيفت سين الرفع. وأخيرا علم المسيحية الأكبر، عيسي عليه السلام، المرسوم في الأناجيل اليونانية "يسوس" Iesous علي الرفع، " يسون" علي النصب، " يسو" في غير ذلك ، وكأنها من يشوع العبرانية ذهبت عينها وأبدلت شينها سينا.

هذا الاختلاف البين في تلك الأعلام الخمسة بين رسمها في القرآن ورسمها في التوراة والإنجيل ، ليس كما تري ناشئا عن مجرد " التعريب" وإنما هو خلاف في جذر الاسم نفسه ، رغم أن القرآن ينص تنصيصا علي أنه يعني علي القطع بأعلامه هذه نفس مسماها في التوراة والإنجيل، فالجودي هو نفسه مرسي سفينة نوح، وآزر هو أبو إبراهيم ، وطالوت هو الملك شاءول الذي خرج داود من عسكره لمبارزة جالوت، ويحيي هو نفسه يوحنا بن زكريا المصدق بالذي هو "كلمة من الله" ، وعيسي هو نفسه المولود من عذراء، الذي أبرأ الأكمه والأبرص، وأحيي الميت.

أتظن أن القرآن الذي يقص عليك بدقة مذهلة وعلم محيط، أنباء أولئك وهؤلاء، يخفي عليه أسماء أبطال"قصصه" في رسمها الآخر، وهو شائع ذائع بين معاصريه من أهل الملتين، يهود يثرب، ونصارى نجران؟ كيف يدقق في النبأ ويخطئ في البطل؟ كيف يذكر لك من أنباء الطوفان ما سكتت التوراة عنه، ثم "يخترع" لمرسي السفينة اسما مخالفا لما سمته التوراة؟

(لم تتحدث التوراة عن امرأة نوح التي خانته، ولا عن ابنه الذي اعتصم من الماء بجبل ولا عاصم، ولم تتحدث عن جدال نوح ربه فيه. والملاحظ علي التوراة التي بين يديك أنها تجتزئ اجتزاء مخلا بالنسبة لأنباء ما قبل إبراهيم ورسالته إلي قومه وتحطيمه الأصنام وتحريقه في النار ولا عن جدال إبراهيم أباه، الذي لم يهجره إبراهيم وإنما " هاجر معه" كما تقرأ في سفر التكوين، وكأنما كل أهمية إبراهيم ليست في أنه نبي رسول، وإنما في أنه " البطربرك" (أبراهام أبينو) وصاحب " الموعد" الذي رسم لليهود حدودهم الجغرافية – السياسية، أما باقي التوراة فكله حديث عن الذي ورث" الموعد" : يعقوب وبنوه . إنها " توراة بني إسرائيل").

ألم يقع في سمع محمد (صلي الله عليه وسلم) من أحبار يهود أسلموا أن اسم أبي إبراهيم في التوراة هو تيرح، فلماذا يصر علي تسميته آزر؟ كيف يسمي داود وجالوت فيصيب، ثم"يفقد الذاكرة" فجأة في شاءول فيسميه طالوت؟ ألم يحاوره أساقفة نجران ثلاث ليال في مسجده بيثراب وهو يعرض عليهم الإسلام، أجادلوه بيوحنا ويسوع، أم جادلوه بيحيي وعيسي؟ لا يظن هذا من خصوم القرآن إلا هازل. ولكن من علمائهم وأحبارهم من فعلوه. كان أحرى بهؤلاء وأولئك ألا يطيلوا الوقوف عند أوجه التطابق بين " كتابهم المقدس" وبين القرآن، مطنطني بدعوي النقل والاستنساخ : إن صح لهم الوحي فالموحي واحد بنص القرآن، وقد تابع الإنجيل التوراة، ولم يعيبوا عليه. بل كان عليهم أن يتوقفوا فيطيلوا الوقوف حقا عند نقاط مخالفة القرآن الصريحة عامداً متعمدا لمحفوظ، مأثور ، مسجل في كتبهم، ليتبينوا أي الوجهين أصوب وأدق. ولكنهم لم يفعلوا.

بل من خصوم القرآن هؤلاء ملحدون يدعون اصطناع المنهج العلمي في مقارنة "الأديان" يستوي عندهم - في بطلان دعوي الوحي- التوراة والإنجيل والقرآن جميعاً، فتندهش كيف استباحوا مجادلة القرآن – ثابت الأصل والسند باعترافهم هم أنفسهم- بتوراة مقطوعة السند عندهم ، قالوا إنها كتبت من الذاكرة بعد صاحبها بعدة قرون.
أو بأناجيل أو ترجمات أناجيل يقولون إن أصلها العبراني المفترض مفقود، لا تدري أي أخطأ المترجم أو اصاب، إلا أن تسلم بالوحي لكتبة الأناجيل اليونانية – كما ارتأت الكنيسة من قبل – والملحد المتعالم ينكر الوحي علي كائن من كان. ولكنك تعلم أن هؤلاء ليسوا بعلماء، وإنما هم "خدام سياسة" ، والهوي والغرض كما تعلم داء عضال لا يرجي منه برء. أما علماء الملتين، فما أنصفوا وما سددوا : القرآن هو السند الأوحد لرأب ما انقطع سنده في التوراة والإنجيل، وهو سند أي سند؛

أما الوجه الذي خالف به القرآن كلا من التوراة والإنجيل في تلك الأعلام الخمسة، فالحديث عنه يأتي بإذن الله في موضعه، عندما نتناول بالتحليل أعلام القرآن المعنية في هذا الكتاب، علما علما...

يتبع....

الثلاثاء، ١٧ أبريل ٢٠٠٧

أعجمي وعربي

السلام عليكم
نتابع معا عرض كتاب "من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن"... وفي هذا المقال يتعرض الكاتب لبعض النقاط والمواضيع الهامة المفيدة في بحثه مثل:
1- لماذا نزل القرآن الكريم بالعربية دونا عن غيرها من اللغات السائدة في هذا العصر.

2- ما السر في تطور اللغة العربية وتميزها للدرجة التي تؤهلها لحمل القرآن وحفظه. فقد تطورت اللغة العربية دون أن يصاحبها حضارة كبرى على عكس منطق التاريخ!

3- ما هي الفروق الجوهرية بين اللغة العربية وغيرها من اللغات السامية وأهمها العبرية (مع التركيز على عبرية التوراة لأهميتها في هذا البحث).يقدم الكاتب في النهاية بعض المعلومات الشيقة عن الترجمة والاشتقاق اللغوي بين اللغات المختلفة وأثر هذا في اللغة العربية.

مع تحياتي


أعجمي وعربي

-----






(1)





هل وردت في القرآن ألفاظ أعجمية؟

كيف، والمنزل عليه القرآن عربي، والمنزل إليهم القرآن عرب؟

أليس تُبعثُ الرسل كل بلسان قومه؟ فكيف يفهمون عنه؟ كيف يتم البلاغ؟

كيف يصح التكيف؟ أيمشى الرسول غريبا في قومه، يتوكأ على مترجم يفسر ما يقوله للناس؟

قال عز وجل : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (4) سورة إبراهيم، أي كما أنزلنا التوراة عبرانية على موسى العبراني فكذلك القرآن، عربيا على عربي.

وكأن من أهل الكتاب من تعاظمه أن يخاطب الله الخلق بغير العبرية، لغة التوراة، فقال جل شأنه : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ٍ} (44) سورة فصلت.



***



أما أن القرآن عربي، فهذا عين الحق، ليس هذا فحسب، بل إن عربية القرآن شاهد على عربية العرب، لا العكس: لا يصح لها فصيح متفق عليه إلا الوجه الذي نزل به.

وأما أنه قد وردت في القرآن ألفاظ أعجمية، فهذا حق أيضا، ولكنه لا ينتقص شيئاً من عربية القرآن، وإنما هو يجليها، كما سترى...



***



وليس القرآن عربيا فحسب، وإنما هو عربي مبين. تجد النص على هذا في قوله عز وجل : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195} .

ولفظ " المبين" حيثما ورد في كل القرآن- وقد ورد لفظه نعتا للمعرفة والنكرة 119 مرة - لا يعنى الإفصاح والإبانة، وإنما يعنى حيث ورد، تأكيد اكتمال تحقق الصفة في الموصوف. إليك بعض الأمثلة، وعليك بالباقي في مواضعه من المصحف :

- {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} (107) سورة الأعراف، أي ثعبان حق، لا شك في ثعبانيته.

- { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (5) سورة يوسف. أي هو العدو يقيناً، لا خفاء لعداوته.

- {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (1) سورة الفتح. أي أن صلح الحديبية وإن تجهمه أول الأمر بعض أجلاء الصحابة، ليس فتحا فحسب، وإنما هو فتح حق، ليس له إلا هذا الاسم.

- { هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (25) سورة النــور، يصف نفسه تباركت أسماؤه، أي هو عين الحق جلا جلاله، لا يمارى فيه أحد.



من هنا تدرك أن وصف لغة القرآن بأنها لسان عربي مبين، يعنى أنه بلسان عربي بين العربية، أو هو حق العربية، لا يمارى في عربيته إلا جاهل بالعربية نفسها.



***



وقد امتن الله على العرب بالقرآن، وأكرم بها منة أن يكون لسان القرآن لسانهم.

وقال عز وجل يقسم بالقرآن : {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} (1) سورة ص.

وقال جل شأنه : {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10) سورة الأنبياء.

وقال أيضا تباركت أسماؤه : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (44) سورة الزخرف.

والذكر في هذه المواضع الثلاثة جميعا يعنى "الشرف".

نعم ، شرفت العربية بالقرآن، وشرف أهلها. والشرف أمانة، أداؤها أن تعرف حقها، وإلا فأنت بها مأخوذ. كما قال عز وجل :"وسوف تسألون" في الآية التي قرأت توا.



وقد تتساءل : كيف استحقت العربية هذا الشرف؟



لا يكفي أن تقول نزل القرآن عربيا لمجرد أن المنزل عليه القرآن عربي والمنزل إليهم القرآن عرب. بل هو تقدير العليم الخبير، الذي لا يمضى أمرا إلا أحكمه. إنه عز وجل يصطفي لرسالته الرسول، ويصطفي لرسوله الجيل الذي يحمل الرسالة، ويصطفي لخاتم رسله البقعة التي تنطلق منها الرسالة إلى أقاصي الأرض. وهو أيضا جل شأنه يصطفي لرسالته الأداة، وأداة الإسلام هي هذا القرآن الناطق بالعربية.



فكيف وسعت العربية هذا القرآن؟ كيف حملت وقره؟ ما تلك الحضارة التي انضجت تلك اللغة، واللغة كما تعلم هي نضاج الحضارة. وهل كانت للعرب قبل القرآن حضارة؟ فمتى اكتمل لهاه نحوها وصرفها وإعرابها؟ متى تهيأ لها شعراؤها وخطباؤها وفصحاؤها؟ بل كيف فهم العرب عنه؟ كيف تذوقوا حلاوته؟ كيف سلموا بإعجازه؟



الحق أن العربية هيئت تهيئة لتلقى هذا القرآن،وزينت تزيينا لتليق به، وأنضجت إنضاجا لتكون وعاءه، وأحكمت إحكاما لتعبر عنه، فما نزل القرآن إلا وقد تهيأ لها هذا كله ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة.



وتلك وحدها معجزة ، وليس شئٌ على الله بعزيز.



لم تكن العربية وقت نزول القرآن، بمستوها هذا الفني المحكم، لغة كتابة، فقد أريد للقرآن أن يكون"قرآنا".

كانت العربية وقت نزول القرآن، بمستواها هذا الفني المحكم، لغة الخطاب اليومي، لا لغة يصطنعها فحسب أهل الفكر والفن والأدب، ولم تكن بمستواها هذا الفني المحكم لغة الخطاب لدى الصفوة من سادة قريش فحسب، بل كانت هي لغة الخاصة والعامة.



وهذا هو اصلاً معنى اللغة: لا تلتمس في المدونات وبطون الكتب، ولا تهمهم بها الأقلام وتحبر الصحف، وإنما اللغة هي التي ينطلق بها اللسان سجيةٌ، فتبصر بها العين، وتسمع الأذن.



وكان هذا – كما مر بك – ضروريا لرسالة تخاطب الكافة...



****



على أن في العربية خصائص لغوية وبيانية وموسيقية، قل أن تجتمع لسواها.

إنها لغة الإيجاز البليغ، والسلم الموسيقى الكامل.

لغة اجتمعت لها كل الحروف، وصحت المخارج: لا تندغم في الحلق، ولا تتآكل على أطراف اللسان، ولا تتحور في ذبذبات اللهاة. فيها ما يقرع السمع عنيفا، وفيها الدمث اللين، وما بين بين.



لغة غنيت حروفا، فغنيت جذورا: لا تعرف اللواصق من رواكب وروادف، وفى غيرها ينوء جذر اللفظ بأوزاره، فيغيم المعنى في ضباباته. أما هي، فتنحت الألفاظ والأوزان للمعنى وضده، وللمعنى وقريبه، وللمعنى والمشتق منه، وللمعنى والمتداخل معه. ما أن يقع بصرك على اللفظ حتى يستعلن لك بكل معناه ودلالاته.



لغة تفننت في أوزانها، ونوعت في تراكيبها طرائق شتى، تمد بالإعراب أواخر الكلم، تهمز وتسهل ، وتصل وتقف، وتنون وترخم، فما استعصى عليها نغم.



وتلك كلها خصائص قرآنية.



****



وقد أفاد القرآن من العربية وأفادت العربية من القرآن. ولكن الذي أفادته العربية من القرآن أضعاف الذي أفاد القرآن...

جمع مادتها، وأحكم نحوها وصرفها وإعرابها، ورسم لها نموذجها الأعلى. ليس هذا فحسب، بل تكفل الله بحفظ القرآن، فكفل لها القرآن حياتها، ونماءها، وبقاءها.



وقد مضى على نزول القرآن بالعربية أربعة عشر قرنا، بادت خلالها لغات وتحورت لغات، ولا تزال العربية وحدها تعيش، بنصاعتها الأولى. وليس لهذا- كما يعرف أهل العلم- نظير في كل اللغات قديمها وحديثها. وأما الذي أفاده القرآن من العربية فهو- كما مر بك – أنها اللغة التي هيئت له، لا يصلح إلا لها. ولسنا هنا في مقام المفاضلة بين لغة ولغة، فاللغات كلها من آيات الله سبحانه.



ولكن الذي لا يتوقف عنده كثيرون، وربما قل من يفطنون إليه، هو أن اللغة العربية - عصر بدء نزول القرآن في مطلع القرن السابع للميلاد، على قلة الناطقين بها يومذاك- كانت هي دون منازع أرقى لغات العالم القديم، ليس فحسب أرقاها بلاغة وفصاحة وجمالا، وإنما أيضا، وبالمقياس اللغوي البحت، أرقاها دقة وكمالا.


لم يكن ينقصها لتصبح اللغة العالمية الأولى يومذاك، إلا أن تتجاوز حدودها الجغرافية السياسية الضيقة، فتشيع بين الناس في المشارق والمغارب. وقد تكفل القرآن بذلك.



(2)





بدأ نزول القرآن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ليلة القدر من رمضان عام 13 قبل الهجرة (609م) مطلع القرن السابع للميلاد، قبيل انقضاء ستة قرون على رفع المسيح عليه السلام، ليس بينهما نبي.



كانت حضارات العالم القديم كلها آنذاك قد تهاوت، وآذنت الدنيا بميلاد جديد وهى قد تهاوت لأن العمالقة أكل بعضهم بعضا، وكانت ساحة الصراع هي هذا الشرق الأدنى القديم.



لم يكن الصراع يدور على فكر أو على خطة لحياة، فقد تداخلت الأفكار والمذاهب،وتشاكلت الضلالات هنا وهناك،وإنما كان الصراع يدور على الأسلاب والغنائم،وكان الأسلاب والغنائم هم أهل هذا الشرق الأدنى القديم. لم يكن لدى الغزاة شئ يفتحون به على أهل الأقطار المغلوبة ، ولم يبقى لدى المغلوبين شئ يقدمونه للغزاة.



ولكن الصراع بين العمالقة الآريين الثلاثة، الفرس والإغريق والرومان، أو اختصارا بين الفرس والروم، لا ينفك يدور، لا تضع الحر أوزارها إلا لالتقاط الأنفاس بضع سنين، وهى حرب عبث، سواءٌ على التاريخ قامت أم لم تقم، فالغالب اليوم مغلوب غدا، لا يعنيك اى الفريقين أدال من الآخر، ولمن كانت الدائرة في الحرب اليوم، فالدائرة على الجميع: إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم ويأتون على ما بقى من أطلال حضارتهم. لا تهتم ، فعلى الأنقاض سيبنى صرح جديد. تجد إشارة إلى هذا في قوله عز وجل :



{ الم .غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم:1-6)



(أما لماذا يفرح المؤمنون يومئذ بنصر الله، وقد أجهز المسلمون من بعد على الفرس ولم يفلتوا الروم، ولماذا يعد الله المؤمنين بهذا مؤكد أنه لا يخلف الله وعده، فليس هذا إيثارا لأهل كتاب على مجوس، ولا اهتماما لشأن المعارك بين الفرس والروم، وإنما هى بشرى للمسلمين بيوم بدر (2هـ-624م) الذي توافق مع كرة الروم على الفرس (624م). في الآيات الست إذن نبوءتان: إنتصار الروم على الفرس ،وانتصار المسلمين على قريش في بدر، كانت النبؤة الأولى توقيتا لتحقق النبؤة الثانية، لا أكثر ولا أقل، ولكن المفسرين احتفلوا للأولى، ولم يفطنوا للثانية، وبها وحدها تفهم الآيات الست فهما متكاملا، أما (أدنى الأرض) المشار إليها في الآيات، فهي ترجمة قرآنية دقيقة لعبارة "أرض كنعان"، وهى فلسطين، حيث كانت المعارك المعنية بين الفرس والروم (راجع في المعجم العربي مادة كنع، وهى نفسها"كنع" العبرية- الآرامية) ولم يلتفت إلى هذه الترجمة أحد.)


احتدم الصراع بين الفرس والروم على ما بقى من أطلال الشرق الأدنى القديم قرونا، بين كر وفر، حتى أجهز عليهم المسلمون في أواسط القرن السابع. ومن قبل، أثخن الروم- إغريقا ورومان – بعضهم في بعض، وأتى القوط والجرمان على القياصرة في روما، فارتحلوا شرقا إلى بيزنطة، قبل قرنين اثنين من ظهور الإسلام.



اختلط الحابل بالنابل في هذه المنطقة من العالم التي شهدت مولد حضارات البشر، ولم يعد هناك فكر جامع، تستند إليه حضارة جامعة، جديرة بالبقاء، لم تعد هناك إلا حضارة ماتت أو أوشكت أن تموت...



***



أما اللغة – موضوعنا في هذا الجزء من الكتاب_- فأنت تعرف بالطبع العلاقة بين موات الحضارة وموات اللغة، فما بادت حضارة قوم إلا بادت لغتهم، أو ذابت في لغة السادة لتعيش بعضا من حياة، أو تحورت إلى رطانة شائهة هجين، لا تكاد تُبين.



متى لم يعد للحضارة فكر تعبر عنه وتعيش عليه، ومثل تدعو إليها وتجاهد من أجلها ، فقد خرست الحضارة ولم يعد لديها ما تقول. إلى هذا آلت اللغات في هذه المنطقة من العالم: تهاوت الحضارة فتهاوت اللغة ولم يكن في أي من تلك اللغات جميعا كتاب في عظمة القرآن، يعصمها أن تزول.



*****



في مطلع القرن السابع للميلاد كانت اليونانية الفصحى التي تغنى بها من قبل شعراء الإلياذة وكتب بها أمثال أفلاطون وسوفوكل، وخطب بها أمثال بريكليس وديموستين، قد آذنت من قبل بالأفول حوالي مطلع القرن الثالث، ولم يأت القرن السابع إلا وقد آلت إلى يوناينة دارجة هجينة، لا على ألسنة العامة فحسب وإنما أيضا في الفن والفكر والأدب.



أما اللاتينية الفصحى، التي كتبت بها مدونات الفقه الروماني، ونظمت بها إنيادة فرجيل، وخطب بها أمثال شيشرون وقيصر، فقد حذت حذو أختها الوينانية، بنفس الترتيب الزمني أو تكاد، فلم يأت القرن السابع إلا وقد تحورت إلى لاتينية دارجة هجينة، بل قل إلى لاتينيات دارجة هجينة، يلدن من بعد لغات أوربية تقرأ لها الآن، لم يكتمل لها نموها إلا في نحو تسعمائة سنة من نزول القرآن.



لم يبق من اليونانية والاتينية مطلع القرن السابع للميلاد إلا أثارة من أطلال مجد قديم، تليق بحضارة ذوت، ولا تتسع لحضارة باذخة توشك أن تولد، لتعيش تلك الحضارة الباذخة الوليدة كان القرآن شهادة ميلادها، وهو إلى الآن عمود حياتها، وما أوشكت أن تتصدع في مراحل من عمرها إلا لأن أصحاب القرآن أنسوه. فالحذر الحذر ممن يرفضونه اليوم دستور حياة.



****



أما في الشرق الأدنى القديم ما بين مصر وفارس، مهبط الرسالات، وموئل الحضارات التي سبقت الفرس والروم، فقد اختلط الحابل بالنابل:

في مصر، تصدعت – بانهيار دولة الرعامسة (الرعامسة جمع رعمس، أو رمسيس كما نكتبها نحن الآن) ، حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد- حضارة شامخة زهت نحو ألفى سنة (3200ق م- 1200ق م). وآذنت بأفول لا رجعة منه: تعاور مصر الغزاة من شرق وغرب، ومن شمال وجنوب، نهبا للرائح والغادي، جائزة لم غلب ، إلا هبات هنا وهناك، وجذوة خامدة تريد أن تتوهج وسرعان ما تنطفئ، حتى غدت مصر ولاية فارسية منذ 525 ق م على يدي قمبيز وخلفائه، ثم إقطاعة يونانية لخلفاء الاسكندر (333ق م ) ثم ولاية رومانية (30م) للقياصرة في روما، ارتحلت تبعيتها معهم إلى بيزنطة (395م) ، ولم يبق من المصريين إلا الحجر، وإلا مياة النيل تجرى تهمهم بما كان : {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ. فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: 25-29)



ترى هل بقيت للمصريين في مطلع القرن السابع للميلاد آثارة من لغة حضارتهم الأولى التي درست؟ هل بقى لديهم من تلك اللغة الفصحى التي ترنم بها أخناتون من قبل، أبتهالات وتسابيح؟ هل بقى لديهم شئ من تلك اللغة الفصحى التي حاور بها فرعون موسى وهارون؟ هي لم تكن لغة أهل البلاط فحسب، وإنما كانت هي نفسها اللغة التي قرع بها السحرة أسماع فرعون وملئه (الملأ يعنى علية القوم، الذين تمتلئ منهم العين مهابة).



أنت بالطبع تعرف الجواب: باندثار الحضارة تندثر اللغة ، لم يبق من المصريين في مطلع القرن السابع من يتكلم المصرية الفصحى، ناهيك بمن يفك رموزها، فضلا عن أن يكتب بها، وإنما آلت المصرية الفصحى إلى قبطية دارجة هجينة، تكتب كلها أو تكاد بأحرف يونانية ابتدع رسومها الفينيقيون من قبل، وتنضح برطانة تعرف فيها آثار ألسنة الغزاة، الإغريق فالرومان، ومسحة من آرامية. فارسية انتقلت إليها مع جيوش قمبيز.



(الآرامية هى لغة أهل آرام (إرم فى القرآن). كانت تطلق على ما نسميه نحن "سورية" بالمعنى العام. سماها أهلها كذلك حنينا إلى موطنهم القديم"آرام نهريم" أي آرام ما بين النهرين، وهناك كانت "إرم ذات العماد" التي عناها القرآن، وسيأتي الحديث عنها في موضعه حين الكلام عن "عاد قوم هود". كانت الآرامية هي اللغة الغالبة في ربوع الشرق الأدنى القديم، فاستبقاها الفرس لغة رسمية في إمبراطوريتهم، وبها اكتشفت في مصر مخطوطات ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد، عصر مجئ قمبيز، تستند إليها الدراسات الحديثة في محاولة فهم الآرامية البائدة وتقعيد نحوها وصرفها. وللآرامية أيضا اسمان آخران. هما "الكدانية" و "السريانية"، أما الكلدانية فهى تسمية خطأ، عدل عنها اليوم علماء اللغات المحققون، وأما السريانية فهي الآرامية نفسها أو ما آلت إليه الآرامية منذ القرن الثالث الميلادي، وما زالت السريانية تعيش إلى اليوم على بعض الألسنة. وبهذه الآرامية نفسها كان يتحدث المسيح إلى عشيرته وحوارييه، وبها كان إنجيله الذي لا تجد له اليوم إلا أصولا كتبها أصحابها بيونانية متأخرة تعرف باليونانية الكنسية.)


أما فارس . التي بلغت أقصى اتساعها على عهد الأخمينين (القرن السادس ق-م)- القرن الرابع ق م )، فشملت امبراطوريتهم منذ القرن الخامس قبل الميلاد الشرق الأدنى القديم كله من فارس إلى مصر، ومن بابل وما بين النهرين إلى سواحل البحر الأبيض في سورية وفلسطين، واكتسحوا اليونان في آسيا الصغرى وألزموهم عقر دارهم في شبه جزيرتهم .. فارس هذه ، ماذا بقى منها؟



كر عليهم الإسكندر فقوض ملكهم من تخوم الهند إلى مصر (333ق م )، وورث امبراطوريتهم الشاسعة جميعها، ليتوزعها خلفاؤه من بعده، وليبدأ في الشرق الأدنى كله العصر "الهلينى" أو "المتهلين" ("هلينى" لفظة يونانية، صفة من هلاس، اسم لليونان قديم)، أي المصطبغ بالصبغة اليونانية فكرا ولغة وحضارة، وهو تعبير غير دقيق، وربما كان مضللا أحيانا، لأنه يغلب العنصر اليونانى الوافد إلى حضارات الشرق الأدنى القديم، ويغفل مردود هذه الحضارات نفسها على أرض اليونانا الأم، حتى باتت اليونان نفسها بعد الاسكندر "هلينية" فكرا وحضارة.



لم تكن جحافل الإسكندر يوناينة خالصة، وإنما كانت تستمد في سيرها المدد من أهل الأقطار المفتوحة، حتى انتهت " غارة " الإسكندر . واستقر الغزاة بعد الفتح في مواقعهم ، يموج بعضهم في بعض، تتمازج الدماء، وتختلط الألسنة، وتتلاقح الثقافات والفلسات والعقائد.



ولك أن تتصور تأثير هذا كله على اللغة الفارسية في موطنها الأصلى كما رأيت من قبل تأثيره على لغة شعراء الإلياذة وأفلاطون وسوفوكل: جمدت الفارسية القديمة على الألسنة ولم يعد يستدل عليها إلا من نقوش كتبت ما بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد، وحلت محلها الفارسية"الفهلوية" التي كتبت بها نصوص "زرادشت" في القرن الثالث الميلادى. وآلت إلى "الأفستية"(أي لغة النص الأصلى) فعاشت في المعابد والأذكار، وبقيت منها فارسية تزهو حينا وتتحامل على نفسها حينا، تنوء بأوزار ما تهجنت به ، حتى أجهز عليها الفتح الإسلامى في القرن السابع، فصارت همهمة يغمغم بها أمثال البرامكة في بلاط الرشيد، ولكن تلك الهمهمة التي طالت، قضت على ما بقى من أصالة اللغة، فلم يستعد لافرس سلطانهم في أواخر الدولة العباسية إلا وقد آلت الفارسية إلى رطانة ثلثها على الأقل عربي، هي تلك الفارسية الحديثة التي تقرآ لها الأن.



****



لم يبق من الحديث عن لغات الشرق الأدنى القديم إلا الآرامية والعبرية ومنهما كانت غالبية العلم الأعجمي الذي نتناوله في هذا الكتاب.

ولكن الحديث عن الآرامية والعبرية يقتضى الحديث أولا عن اللغات المسماة بالسامية – وأمها جميعا"العربية" – تقريرا لأصالة العربية عليهما قبل نزول القرآن، وهذا ما ننتقل إليه الآن.







(3)





تستطيع أن تصنف لغات البشر إلى سلالات عرقية، أو جغرافية – تاريخية، تنسبها إلى موطن أقدم من يُظن أنهم تكلموا بها قبل أن ينساحوا في الأرض، فتنشعب ألسنتهم لهجات فلغات، فتقول مثلا اللغات الآرية ، ومنها السنسكريتية في الهند، والفارسية في إيران، واليونانية والللاتينية والجرمانية في أوربا، وما تفرع عن هذه وتلك من لغات تقرآ لها الآن، أو تقول مثلا اللغات السامية والحامية والكوشية، ومنها العربية والعبرية والمصرية والحبشية، بقى منها ما بقى وباد ما باد. والسامية والحامية نسبة إلى سام وحام إبنى نوح، والكوشية نسبة إلى كوش بن حام.



("أريا" لفظة سنسكريتية بمعنى الشريف النبيل الأمثل، وصف بها الهنود لغة السادة الغزاة ، وبها سميت "إيران" (آريا – نام) على الراجح، أي أرض الأماثل. ومن "أريا" لفظة "أرستو" اليونانية بمعنى الأمثل، وبها صيغت "أرستو- كراتيا" (الأرستوقراطية) أي حكومة الصفوة أو الأماثل.)



وليس لك بالطبع أن تتساءل بم كان يكلم نوح أباه، وبم كان يتفاهم نوح مع ابنيه سام وحام، ولم شذ حام عن أخيه سام فاصطنع لنفسه لغة انفرد بها لم ترق لابنه كوش فعدل عنها إلى غيرها . تلك على الأرجح- إن صحت التسمية- ليست أسماء أشخاص، وإنما هي أسماء قبائل وشعوب تفرقوا في البلاد، فتفارقت الألسنة.



أما إن ترجح لديك – وأنت اللبيب العاقل- وحدة الأصل الإنساني، فلا مفر لك من أن ترد لغات أهل الأرض جميعا إلى أصل واحد، هو تلك اللغة الأولى التي تلكم بها أبو البشر وأمهم، بعد مهبطهما من الجنة.



على أن افتراض لغة أولى تفرعت عنها كل اللغات، وهو فرض علمي لا غبار عليه- إن لم يكن الفرض المنطقي الراجح- ربما يغريك ببحث عقيم عن أي اللغات كان الأول، ولكنك مهما بذلت من جهد- وأيضا من افتعال- فقصاراك أن تقنع بفرض واحد مؤكد، وهو أن اللغة التي تكلمها آدم بعد مهبطه من الجنة لم يعد يتكلمها اليوم أحد من أهل الأرض، وإنما هي تفرقت في لغات البشر جميعا: لكل منهم فيها نصيب، قل أو كثر.



لهذا عدل اللغويون الآن عن تلك التسميات العرقية الجغرافية- التاريخية التي قد توهمك بوجود لغة أو لغات أولى تنتمي إليها الأسر اللغوية التي يتكلمها البشر اليوم. عدل اللغويون عن ذلك الآن، وأصبحوا ينسبون الأسر اللغوية إلى الأرض التي يعيش عليها في عصرنا هذا من يتكلمونها اليوم، أو عاش عليها أسلاف لهم سبقوا ، تكلموا لغة تلمح أصولها في اللغات المعاصرة، أو عثر فيها على نقوش أو مخطوطات عفا عليها الدهر، يعكف عليها اللغويون بغية حل رموزها، وفك طلاسمها ، ورها إلى أسرة لغوية ولدت فيها، ثم تحورت أو بادت. فيقولون مثلا اللغات "الهندية- الأوروبية" ما بقى منها وما باد. ويقولون مثلا اللغات "الإفريقية- الآسيوية"، يعنون تلك الأسرة اللغوية بفصائلها" السامية" و"الحامية" و"الكوشية"، إلخ، المتقاربة جذور مفرداتها ودلالات ألفاظها ومخارج أصواتها، التي يتكلمها في آسيا، أو تكلمها في آسيا يوما ما، عرب شبه الجزيرة من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، كما يتكلمها في أفريقيا، أو تكلمها في إفريقيا يوما ما ، أهل الضفة المقابلة من البحر الأحمر ، المصريون والسودان والأحباش.



*****



أما الخصائص التي يستند إليها اللغويون في تقسيم لغات البشر إلى مجموعات لغوية، أو أسر لغوية، فهى تنقسم بدورها إلى فصائل لغوية داخل الأسرة الواحدة، فأهم هذه الخصائص ما يلى:



1- مخارج الأصوات

أي انفراد فصائل الأسرة اللغوية المعينة بنطق أحرف، أي أصوات، لا تنطقها غيرها. من ذلك انفراد اللغات الافريقية- الآسيوية بنطق الحاء، وانعدام هذا الصوت – على سبيل المثال- في اللغات الهندية- الأوربية. وليست العبرة في هذا السياق بصورة الحرف، أي بشكله المكتوب، أي بالخط الذي تصطنعه اللغة في الكتابة، وإنما العبرة بالصوت الموضوع له الحرف.



2- دلالات الألفاظ

تتقار في لغات الفصيلة الواحدة، تقاربا واضحا، بل وتتطابق أحيانا، بنية اللفظ الموضوع لنفس المعنى. من ذلك لفظة "عين" الموضوعة لأداة الإبصار، وعين الماء، الخ. ، في اللغات العربية والآرامية والعبرية على السواء,. ومن ذلك أيضا مادة الفعل" كتب" بنفس المعنى في هذه اللغات السامية الثلاث.



3- بناء الألفاظ

من اللغات صرفي وغروي. فأما اللغات الغروية، ومنها أسرة اللغات الهندية- الأوربية، كالسنسكريتية والفارسية، وكاليونانية واللاتينية وبناتها الأوربيات، فهي اللغات التي تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق من خلف ومن قدام، فيبدو لك اللفظ منحوتا من كلمة واحدة نطقا وكتابة، وهو من بضعة أجزاء موصولة، وكأنما شد بعضها إلى بعض بغراء. من ذلك في اللاتينية مثلا كلمة emancipio بمختلف صورها في اللغات الأوروبية الحديثة، ومعناها العتق والانعتاق: تظنها من كلمة واحدة، وهى من ثلاثة أجزاء شدت إلى بعض (e)+(man)+(cipio) الجزء الأول (e) بمعنى "خارجا" ، والثاني (man) بمعنى "اليد"، والثالث (cipio) بمعنى "الأخذ"، فهى إذن ليست كلمة وإنما هي جملة أو شبة جملة، معناها الحرفي"الإخراج من أخذ اليد" ، أو "الإخراج من ملك اليمين".



وأما اللغات الصرفية ومنها على سبيل المثال العربية والآرامية والعبرية في الفصيلة السامية المنتمية إلى أسرة الافريقية – الآسيوية، فهي لا تستعين في اشتقاق المعنى الموسع من المعنى البسيط بإضافة اللواصق أو بتجميع أجزاء الكلام، وإنما هي تنحت جذور الألفاظ لجذور المعاني، ثم تشتق الموسع من البسيط"بالتصرف" في بنية الجذر الأصلي وفق أوزان ثابتة لكل منها معناها التوسعي المحدد، بغض النظر عن جذر اللفظ الأصلي. من ذلك في العربية فَعَل وفعل وتفعل وانفعل استفعل وفاعل وتفاعل الخ. وليست أحرف الزيادة الى تلحظها وسط الجذر كتضعيف العين في فعل ، والمد بالألف في فاعل، أو المضافة في أول الجذر مثل الهمزة والنون في انفعل ، والهمزة والسين والتاء في استفعل ، كاللواصق في الغات الهندية- الآوروبية ، لأن أحرف الزيادة هذه ليس لها في ذاتها معنى كما هو الحال في لواصق اللغات الهندية- الأوروبية، وإنما لها وظيفة صرفية، تصرف جذر اللفظ عن معناه البسيط إلى معناه الموسع.



وأيا كانت ميزة الصرفي على الغروي، مما لا نتصدى له الآن، فهي عند اللغويين سمة فارقة حاسمة بين المجموعات اللغوية.



***



وأما الفوارق بين لغة ولغة من نفس الفصيلة، كفوارق ما بين العربية والعبرية من الفصيلة السامية ، والتي تجعل منهما لغتين مختلفتين بحيث تعتجم العبرية على السامع العربي- كما تعتجم العربية على السامع العبري- فلا يفهم أحدهما شيئا من لغة الآخر حتى يترجم له، فمن هذه الفوراق بين العربية والعبرية على سبيل المثال، القلب والإبدال. أما القلب فهو تغيير ترتيب أحرف الكلمة، مع اتحاد المعنى، ومثاله من العربية نفسها الجذران"جَذَب" ، "جَبَذ"، بمعنى شد في كليهما، وغيرهما كثير. وأما الإبدال فهو تغيير حرف بحرف آخر قريب من مخرجه، مع بقاء المعنى، ومثاله من العربية نفسها "سراط"، "صراط"، بمعنى الطريق في كليهما. ومن الإبدال أيضا، المبادلة بين أحرف المد، كإبدال المد بالواو مدا بالياء، ومثال هذا من العربية نفسها "ساع/يسوع"، وكلتاهما بمعنى ضاع وهلك. ويتفاقم أمر القلب والإبدال ما بين العربية والعبرية حين يكون لصورة اللفظ المتحور في إحدى اللغتين بالقلب والإبدال معنى مغاير تماما لمعناه في اللغة الأخرى. من ذلك أن "نجب" العبرية (ومعناها الجنوب) ليست من "النجابة"، وإنما هي مقلوب الجذر العربي"جنب". أما "جنب" عبريا فليست من الجنوب في شئ، وإنما هي بمعنى "سرق". ومن ذلك أيضا أن "صنم" العربية ( مفر أصنام) تصبح "صلم" في العبرية. ولكن صلم عربيا (باللام) تعنى قطع واستأصل (وغلبت في الأنف والأذن). فلا تفهم أي المعنيين يريد ذلك العبراني الذي يحدثك. ويزداد الأمر سوءاً حين تعلم أن "صلم" العبرانية تفيد أيضا الظلام والظلمة (من أظلم العربي أبدلت ظاؤها صادا). أما "الظلم" نفيض العدل فهو في العبرية بالطاء"طلم" (وطلمه عربيا يعنى ضربه بكفه مبسوطة، وهو أيضا وَسَخُ الأسنان من إهمال تنظيفها، ليس له بالظلم صلة). أما "صنم" عبرانيا فلا صلة له بالأصنام، وإنما هو من النضج والإنضاج. وقس على هذا الكثير الذي لا يحصى بين هاتين اللغتين.



وإلى جانب القلب والإبدال، تفتقر العبرية إلى ستة أحرف أصيلة موجودة في العربية، هي بترتيبها على أحرف الهجاء العربية: الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين. أما الضاد والظاء فلا وجود لهما مطلقا في العبرية نطقا وكتابة، فما كان بالضاد في العربية انقلب غالبا إلى صاد في العبرية، مثل "ضحك" العربية التي تنقلب إلى "صحق" في العبرية (أبدلت أيضا كافها قافا)،ومنه اسم نبي الله إسحاق كما سترى، وما كان بالظاء انقلب غالبا إلى طاء أو زاى، وربما إلى صاد، مثل "ظبى"التي تصبح "صبى" في العبرية . أما الأحرف الأربعة الأخرى (ث-خ-ذ-غ)، فلا وجود لها في العبرية أيضا، أي في الكتابة، ولكنك تسمعها في مواضع مخصوصة من محدثك العبراني الذي ينطق لك التاء ثاء، والكاف خاء، والدال ذالا، والجيم غينا، حين يتحرك- أو يعتل- ما قبلها (حين يكون لها قبل)، شريطة ألا تُضعف هي. من ذلك أن "بيت" العبرية (وهى بيت العربية) تنطق"بيث"، و"ملك" (هي ملك العربية) تُنطق "مِلخ"(ولكن المؤنث منها وهو ملكه تسكن لاُمه قبل الكاف فتنطق الكاف على أصلها). من ذلك أيضا"يهود" التي تنطق "يهوذ"، ومثله أيضا"رَجَم" العبرية التي تنطق"رَغَم" لتحرك الراء قبل الجيم فصار جيمها في النطق غينا. (المعنى به في هذا الكتاب هو "عبرية التوراة" لا العبرية" المعاصرة)

ولعلك لاحظت أن التفاوت في نطق هذه الأحرف العبرية الأربعة في مواضع مخصوصة مع نظق الحرف على أصله في غيرها، هذا التفاوت لا يضيف جذراً إلى تلك اللغة ، وإنما هو مجرد "لهجة" في نطقه في مواضع مخصوصة لا تغير من أصل معناه. ولعلك لاحظت في هذا السياق أيضا. أن زيادة الأبجدية العربية (28 حرفا ليس من بينها اللام ألف) بستة أحرف أصيلة على الأبجدية العبرية (22 حرفا) تثرى العربية بكم هائل من الجذور الثلاثية لا تستطيعه العبرية، ذلك أن الحرف الواحد مجموعا إلى حرفين اثنين فقط من حروف الأبجدية (ولتكن ض- ب- ر) يعيطك عشرة جذور ثلاثية ممكنة: بَض-ضَب- رض- ضر- ضبر-ضرب-رضب- ربض- برض- بضر، كلها مستعمل مسموع في العربية عدا الجذرين الأخيرين"برض"و"بضر" الباقيين في خزائنها ، تستطيع استخراجهما حين تشاء. وقس على هذا اجتماع الضاد مع باقي الحروف. (هذا باب واسع غفل عنه"المعربون"، يتيح "اختراع" الألفاظ لمستحثات الحضارة.)



من جهة أخرى تفتقر العربية إلى صوتين في العبرية، هما الباء(p)الثقيلة، والباء المرققة التي تخف وتسيل فتصبح(V) ولكن هذين الصوتين غير أصليين في العبرية، وإنما هما نفساهما الفاء والباء: تنطق الفاء باء ثقيلة (باء) حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أولا يكون لها قبلُ) أو حين تُضعف (مثل برعو العبرية بمعنى فرعون) وتنطق كالفاء العربية فيما عدا ذلك . أما الباء العبرية فتنطق كالباء العربية حين لا يتحرك أو يعتل ما قبلها (أو حين لا يكون لها قبل) أو حين تُضعف، وتنطق باء مرققة سائلة (فاء) فيما عدا ذلك (مثل "آف" (AV)العبرية يعنى أبٌ، وعكسه "بَا" العبرية ومعناها (جاء). وهذا أيضا لا يضيف إلى العبرية جذورا جديدة تتميز بها على العربية، وإنما هو مجرد لهجة في نطق الحرف في مواضع مخصوصة ، لا تغير من أصل معنى الجذر الذي يحتويه، مع نطق الحرف على أصله في غيرها. من ذلك الفعل "كَفَر" المشترك بين العربية والعبرية معنى ونطقا وكتابة، ولكن الفاء فيه حين تُضعف، تنطق في العبرية باء ثقيلة (P)، كما في "يُوم كِبُور" أي "يوم الكفارة". ومثله أيضا الاسم العبراني"أيوب"، الذي ينطق في العبرية "إيوف"، رُققت باؤه وأسيلت لاعتلال ما قبلها (الواو) فنطقت باؤه فاء. ومثله أيضا "أبراهام"(إبراهيم) الذي ينطقه العبرانيون" أفراهام" لتحرك الهمزة قبل الباء.



من وجوه المغيرة الصوتية أيضا بين العربية والعبرية، اصطناع العبرية "المد بالكسر" (أي إطالة زمن نطق الكسرة دون انقلابها ياءُ ثقيلة) وقرينة "المد بالضم" (أي إطالة زمن نطق الضمة دون انقلابها واواً ثقيلة) ولا وجود لهما أصلا في العربية الفصحى، (باستثناء حالات "الألف الممالة" التي تثبت سماعا عن أصحاب القراءات في مثل ياء "مجريها ومرساها " .وإمالة الألف هى نفسها بالمد بالكسر) وإن كانا موجودين في العربية العامية، مثلما ترى في كلمة "بيت" العربية التي تنطق في العامية مكسورة الباء ممدودة الكسرة"بيت". والفرق بين المد بالكسر وبين المد بالياء أن الكسر في المد بالياء ثقيل، تحتشد له عضلات الفم واللسان، كما في كلمة "عيد" بينما هو في المد بالكسر مخفف مرقق، كما في كلمة "ليش" (بمعنى لأى شئ) العربية العامية ، ترتخي فيه عضلات الفم واللسان. وهكذا أيضا الفرق بين المد والضم وبين المد بالواو في مثل"عود" و"يوم" وإذا لاحظت أن العبرية - شأنها شأن العربية العامية- تصنع ذلك كلما كان الأصل في العربية الفصحى الوقوف بعد فتح على الواو والياء، في مثل"يوم" و"ريب" ، الوقوف عليهما ثقيل، بدت لك العبرية وكأنما تنشد التسهيل ، كما تفعل العربية العامية، وكما فعلت الانجليزية المعاصرة مثلا بالحرفين (au)"آو" و (ai)"آى" اللذين سهلتهما الانجليزية المعاصرة، والفرنسية المعاصرة أيضا دون سائر أخواتها اللاتينيات ، إلى "أوه" و"إيه"على الترتيب.



هناك أيضا مغايرة بين العربية والعبرية في النحو والصرف، لا توجد في العبرية علامات "إعراب"، وإنما الأصل "البناء"، أي بقاءُ اللفظ على حاله وصورته أيا كان موضوعه من الإعراب رفعا ونصبا وجرا وجزما كما تفعل العربية العامية، وكما آلت إليه الانجليزية والفرنسية بين أمهات اللغات الأوروبية الحديثة. وليس في العبرية صيغة للمثنى، إنما هو الجمع لا غير. عدا استثناءات قليلة منقرضة من مثل"عينيم" مثنى "عين" (أداة الإبصار)، ومثل "نهريم" مثنى "نهر" (في عبارة "آرام نهريم"، أي آرام ما بين النهرين). ولا وجود لجمع التكسير في العبرية ، وإنما هو الجمع السالم لا غير، وصورته البناء على الياء بعدها ميم(لا نون كما في العربية والآرامية) في جمع المذكر ، مثل "بنيم" (يعنى "بنون" العربية) والمد بالضم بعدها تاء ساكتة (لا المد بالألف بعدها تاء كما في العربية والآرامية) في جمع المؤنث ، مثل "بنوت" (يعنى "بنات" العربية) . كما تفتقر العبرية إلى صيغة "أفعل التفضيل" مثل " أكبر" و"أصغر" وما إلى ذلك ، فتحتال عليها بصيغ مخصوصة من مثل" الابن الكبير" في موضع أكبر الأبناء، وهلم جرا. ومن أمثلة المغايرة بين العربية والعبرية في موازين الصرف، أن العبرية تضع الوزن "فُعيل" (مدا بالكسر) لزنة اسم الفاعل، والوزن" فعول" (مداً بالواو) لزنة اسم المفعول ، وأحيانا كثيرة الوزن "فعول "( مداً بالضم لا بالواو) لزنة مصدر الثلاثى المجرد. من ذلك "حميذ" بمعنى حامد، و"حموذ" بمعنى محمود، و"حموذ"( مدا بالضم ) بمعنى الحمد، الخ.



أما أخطر وجوه التغاير بين العربية والعبرية ، وأدلها أيضا على أصالة العربية وسبقها للعبرية (وللآرامية ايضا) في الزمان والمكان، فمنها تفوق العربية تفوقا ساحقا بوفرة المادة اللفظية الأصلية (الجذر الثلاثى) بما لا يقاس على العبرية والآرامية ليس فقط بسبب زيادة الأبجدية العربية بستة أحرف أصلية(ث – خ – ذ - ض- ظ - غ) كما مر بك ، فتستطيع الإتيان مثلا بالجذرين "خرج" وحرج" كلا بمعنى، ولا تستطيع العبرية إلا الثانى وحده بمعنى "ضاق" وغير هذا أكثر من أن يحصى، وإنما أيضا لكون العربية أوفر أوزانا وأضبط وأقيس ، تستطيع الإتيان بالطريف بالمعجب دون زيادة في أحرف الجذر، وإنما فقط بتغيير حكة عينه. من ذلك الفعل "صنع" أي كان صانعا شيئا ما ، سفسف فيه أو أتقنه، و"صنع" أي كان حاذقا ماهر الصنعة، وغيره كثير.



ومن وجوه الأصالة والتفوق أيضا أن العربية تستنفد من الجذر الأصلي كل معانيه - الرئيسي والمترتب عليه- على حين تقتصر العبرية والآرامية غالبا على وجه واحد تجمدان عليه. من ذلك الفعل "حمد" فهو في العربية بمعان يتسلسل بعضها من بعض: حمدته يعنى رضيته وأعجبت به، وحمدته أيضا يعنى ذكرت محاسنه فمدحته بما هو أهله، وحمدت له أمرا يعنى استحسنت له، وحمدته أيضا يعنى ذكرت له نعمة فشكرتها وأثنيت عليه لجوده بها. أما العبرية فتقتصر من "الحمد" على وجه واحد، هو الرضا والإعجاب: حمدته العبرية تعنى أعجبنى وحلا لى.



(هذا عندي هو الوجه المنعوت به صلى الله عليه وسلم بمقتضى تسميته"محمداً، أي الحميد الخَلق والخُلق، الأفعال والصفات. وهو أيضا- وهذا جديد نفيس لم تقرآه من قبل- الذي جاء في العهد القديم نبوءة بمبعثه صلى الله عليه وسلم على لسان حجاي النبي: "وبا حمدت كل هجويم" (سفر حجاي:2/7)، يعنى "ويجئ حمده كل الأمم أي الذي تحمده كل الأمم، يعنى يحمده كل من نطق باسمه، وإن جحده وأنكر نبوته. والنصارى يسقطون هذه النبوءة على المسيح عليه السلام، وليس بشئ، لأن المسيح لا يحمده من جحده وأنكره، ومنهم اليهود على الأقل.


وهذا أيضا بعض معنى قوله عز وجل : { النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } (157) سورة الأعراف، أي نبي كل الأمم، الموصوف بنعته في التوراة والإنجيل الذين بين أيديهم عصر نزول القرآن وإلى الآن. ومن أسف أن تراجمه العهد القديم يترجمون عبارة"حمده كل الأمم" بعبارة" مشتهى كل الأمم" ، ربما لطمس معنى "الحمد" في النبوءة. ولو أنصفوا لاستبقوا لفظ "الحمد" في النص العربي على الأقل – بصورته المشتركة بين العرب والعبرية. ربما اعتذرت لهم بأنهم لو سلموا بهذه النبوءة لسلموا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وربما ظننت أيضا أنهم لا يُسلمون بالاشتراك بين "حَمَد" العبراني ولكن آباءهم في الأندلس كانوا يسلمون بهذا الاشتراك، بدليل نطقهم اسم النبي لنصارى الأسبان والفرنسييين لا على زنة مُفعل العربي- أى محمد- وإنما على زنة نظيره العبرى مفُعل – أى محمد – بنفس المعنى عبريا، ومن هنا قال الأسبان Mahoma وقال الفرنسيون Mahomet اللتين تحار في تعليل تحريفهما ، وربما أسأت الظن فحسبت أنها " ما حُمدِ" نفيا للحمد عنه صلى الله عليه وسلم).

أما أكثر أوجه المغايرة دلالة على أصالة العربية وسبقها فهو أن العربية لا يوجد فيها لفظ مشتق إلا وهى تستخدم ثلاثية المجرد في أصل المعنى الموضوع له، أما العبرية فيكثر فيها المشتق الذي لا حذر له. معنى ذلك أن العبرية تأخذ اللفظ المشتق على صورته عند أصحابه دون فهم أصل معناه في جذره الثلاثي. والجذر بالطبع أسبق وجوداً من اللفظ المشتق منه. العبرية إذن ناقلة عن العربية، ولا يتصور العكس. من ذلك أن الفعل العربي"نجل" بمعنى قطع وطعن- ومنه" المنجل" أداة الحصاد- لا وجود له في العبرية، ولكن الموجود في العبرية من مادة الجذر العربي

"نجل اللفظ "مجال" (أوصلها "منجال") أي المنجل: استعارت العبرية "المنجل" ولم تستعر "النجل". هذا يفسر لك لماذا يلجأ اللغويون إلى المعجم العربي لمحاولة فهم غوامض العبرية والآرامية، لهذا صح عند اللغويين الأثبات أن العربية هي أم الساميات جميعا، لأنها الخزانة اللغوية التي تغترف منها سائر لغات الفصيلة ولا تنضب هي، بل لديها دائما المزيد.وربما ترجح عند بعضهم أنها أيضا الأصل البعيد الذي انشقت عنه وتحورت سائر لغات المجموعة الإفريقية- الآسيوية، ومنها المصرية والحبشية.







ولكنك في أقل القليل تستطيع أن تؤكد- مصيبا غير مخطئ- أن اللغة العربية- أيا كان الشكل الذي تطورت منه إلى الشكل الذي نزل به القرآن في مطلع المائة السابعة لميلاد المسيح- كانت هي نفسها في عصر ما غير بالغ القدم اللغة السائدة بين سكان شبه الجزيرة من أقصى اليمن إلى أقصى الشام، وأن الآرامية التي ارتحل بها آباء إبراهيم من العراق إلى سورية، والعبرية التي ارتحل بها إلى مصر يعقوب وبنوه، وعاد بها بنو إسرائيل إلى جنوبي فلسطين بغير الوجه الذي ذهبت به فتعاجموا بها على إخوانهم الموآبيين - هذه وتلك وسائر ما تكلم به أهل الشرق الأدنى القديم في شبه الجزيزة – ليست إلا لهجات قبلية متحورة عن هذه العربية نفسها، تهجنت بها ألسنتهم بتأثير الغزو اللغوي الحضارة الذي توالى على أطراف شبه الجزيرة، شرقيها وشماليها، وسلم منه قلبُلها في الحجاز، وإلى حد بعيد جنوبيها في اليمن. على أنك إزاء هذا المستوى الفنى الرائع الذي ارتقت إليه تلك اللغة الفذة نحوا وصرفا وإعرابا- ضد منطق التاريخ ومنطق الحضارة- والذى تلمسه قبيل نزول القرآن – فيما صحت نسبته إلى الجاهليين من شعر- لابد يخايلك إحسان مبهم بأن تلك اللغة لا ريب سليلة حضارة موغلة في القدم سبقت عصر الطوفان وسبقت عصر التصحر والجفاف في شبه الجزيرة ، ثم ضاعت في ضباب التاريخ. ولكننا لا نخوض بك في تاريخ ما قبل التاريخ، فلا علاقة لموضوعنا بهذا الفن ، ولسنا نحن أيضا من رجاله.







(4)





تحدثنا فيما سبق عن أوجه التقابل والتغاير بين العربية والعبرية داخل الفصيلة السامية. وما ذكرناه بشأن العربية والعبرية ينطبق في جملته، مع بعض تفاوت، على ما بين العربية والآرامية ، وعلى ما بين الآرامية والعبرية تلك اللغات السامية الثلاث الألصق بموضوع هذا الكتاب. ما أردناه هو التمثيل لوجوه التقابل والتغاير بين أفراد الفصيلة اللغوية الواحدة، التي تجعل إحداها كلاما أعجميا في سمع أهل اللغة الأخرى من نفس الفصيلة، وفيما ذكرناه كفاية، وعذرنا أن الإفاضة بعض الشئ في المقارنة بين العربية والعبرية بالذات، تفيدنا في استجلاء"عجمة" العلم العبراني الذي نتصدى له فيما يلي من فصول الكتاب.



****



هذا التقارب، والتغاير أيضا، بين أفراد فصيلة لغوية معينة، ولتكن الفصيلة السامية، داخل أسرة لغوية معينة، ولتكن الفصيلة السامية ، داخل أسرة لغوية معينة، ولتكن أسرة اللغات الإفريقية-الآسيوية، يدلان على أن التقارب قد كان منشئوه التجاور في الزمان والمكان حقبة من الدهر بين أبناء الفصيلة اللغوية الواحدة، لأن اللغات تُتعلم بالمحاكاة والتقليد، وهذا لا يتسنى إلا في بيئة معيشية مشتركة.



على أن التقارب- وهو دون التطابق- يفيد بذاته وجود مغايرة بقدر ما بين اللغتين من ذات الفصيلة، لا يمكن تفسيره إلا بحدوث انفصال بيئي بنفس القدر بين أبناء هاتين اللغتين تعرضت إحداهما خلاله- بالمحاكاة والتقليد أيضا- لتأثيرات لغوية من حضارات مجاورة، أو غزوات لغوية- حضارية شنها أقوام يتحدثون غير اللغة، ليس هذا فحسب، بل إن هذا الانفصال البيئي ربما صاحبه انفصال حضاري في اتجاه مغاير، استتبع تطور اللغة في اتجاه مغاير لتطور اللغة التي انشقت منها، فتتباعدان إلى حد التعاجم. ذلك أن اللغات ، بغض النظر عن الغزو اللغوي- الحضاري، لا تثبت قط على حال، بل تنمو وتتحور أيضا، لا بفعل المؤثرات الخارجية وحدها، وإنما أيضا بفعل ارتقاء- أو انتكاس- الحضارة الذاتية لأبناء اللغة: تنتعش الحضارة فتتغنى اللغة، وينضب معين الحضارة فتذوى اللغة أو تموت. والأصل في هذا أن الألفاظ أوعية المعاني، تماما كما أن الجسد وعاء الروح: لا يولد في اللغة لفظ جديد إلا متلبسا بمعنى جد لأهل اللغة. والحضارة التي يصيبها العقم فلا تتطور ولا تبدع ولا تبتكر، تعقم لغة أهلها أيضا فلا تولد فيها ألفاظ جديدة لمعان ومسميات جديدة سبقهم إلى الوقوع عليها أبناء الحضارة الغالبة، أصحاب الحق الأول في تسمية ما يكتشفونه ويبتدعونه. وبقدر ما تتهجن الحضارات التوابع، تتهجن اللغة، لن اللغة التي عقمت بعقم حضارة أهلها لا تجمد مفرداتها فحسب على ما جمدت عليه حضارتهم، ولا تضمر مفرداتها فحسب وتشيخ، وإنما يهجرها أهلها أيضا إلى ألفاظ"أعجمية" تلتوى بها ألسنتهم، هي تلك الألفاظ التي اصطنعها أصحاب الحضارة الغالبة لما استحدثوه أو تطوروا إليه من أنماط حياة وأدوات حياة.



وعيب اللفظ المنقول على أصله الأعجمة إلى اللغة المستعيرة أنه ليس دالا بذاته على أصل معناه في لغة المنقول عنهم، فيلتبس على غير المتخصص من أبناء اللغة المتسعيرة، وربما استخدم في غير ما وضع له. يحدث هذا بالتحديد في ألفاظ" المعاني" أي الألفاظ الدالة على الفعل وهيئة الفعل، من مثل" الاستراتيجية" و"الديمقراطية"، الخ، في اللغات المعاصرة، مما ليس له مقابل مادي خارج الذهن، يوضحه ويجليه ويذكر به، أكثر مما يحدث في أسماء الأشياء والمنتجات والمصنوعات والعدد والآلات والمكتشفات والمخترعات التي سبقت إليها الحضارة الغالبة مثل "الرادار" وغيره، مما له خارج الذهن مقابل مادي يوضحه ويجليه ويذكر به.



أما اللغة التي تستعير من غيرها معانى الأفعال وأسماء الأفعال، فهى لغة قد عقم تفكير أهلها وضحل، ينتظرون من غيرهم أن يفكر لهم، ثم يأخذوا عنه أخذ الببغاء والقردة، فيزدادوا تبعية ويمعنوا انتكاسا، لغة أهل الحضارة الغالبة هي المثل على تطور اللغة بتطور الحضارة الاتية لأبناء اللغة، ولغة الحضارة التابعة هي المثل على تحور اللغة بتاثير الغزو اللغوي- الحضاري.



وتستطيع أن ترتب على هذا – مصيبا غير مخطئ- أن اللغة الأغزر ألفاظا أو الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأقدر على توليد المعاني، وأنها اللغة الأدق عبارة، الأوضح فكرة، الأطوع لتشقيق المعاني،الأقوى على التخيل والإبداع، الأملك لعنان الفكر، الأثبت في وجه الغزو اللغوي- الحضاري.



ولأن الحروف – أي الأصوات- هي لبنات الألفاظ، تستطيع أن تقول إن اللغة الأقدر على نحت جذور الألفاظ، هي اللغة الأكثر احتواءً لكافة الأصوات المفردة الممكنة ، أي الأوفر أصواتاً وحروف نطق.



وتستطيع أن تضيف إلى هذا ان اللغات الصرفية ذوات الأوزان، كما هو الحال في اللغات السامية، وأمها العربية، هي وحدها- دون اللغات الغروية- الأقدرعلى تمثيل الألفاظ الأعجمية وهضمها،لأنها – وبالذات اللغة العربية- لا تقبل اللفظ الأعجمي على صورته في لغته، وإنما تعربه فتجانس بين حروفه على مقتضى مخارج أصواتها، ثم تقولبه في قوالبها وتصبه في أوزانها ، ثم تشتق منه، وتتصرف فيه، حتى يبدو اللفظ الأعجمي لغير المتخصص وكأنما ولد عربيا لأب عربي.



واللغة العربية في هذا كله- دون سائر اللغات- فرس لا يدانى، لأنها الأكثر حروفا، الأغزر جذورا، الأوفر أوزانا، الأضبط نحوا وموازين صرف. ولكنها أيضا – ولنفس الأسباب- اللغة الأقمن باشتباه الأعجمي فيها بالعربى، لأن اللفظ المنقول إليها ذابت عجمة معناه في عروبة صورته بعد تعريبه. قارن فى هذا السياق"ساذج" المعربة عن الفارسية"ساده" بمعنى النقى الخالص، وأيضا الاسم الللاتيني"كسر"المعرب إلى "قيصر".



على أن النقلة العرب في العصر الحديث، لا سيما في نصف هذا القرن الأخير، لم يلتزموا قواعد التعريب التي تقتضيها أوزان اللغة العربية ومخارج أصواتها:



عربوا " الخط" ولم يعربوا اللفظ ، فأساءا ولم يحسنوا . قد مهد لهذا- رغم جهود محو الأمية ونشر التعليم في عصرنا- شيوع العامية وتراجع الفصحى على الألسنة ، لا في لغة الحديث اليومي فحسب ، بل وفى الخطابة وفى الإذاعة والتلفزة، حتى استجازتها الصحف فتسللت إلى أقلام أهل الفكر والفن والأدب، وحتى أصبح استيعاب قواعد النحو والصرف والأعراب وتعلمها وتعليمها، على بساطتها في العربية وانضباطها، مشكلة كبرى لجمهرة المثقفين أنفسهم فما بالك بغيرهم؟



بمثل هذا – وقد بدأ بالفعل- تستحيل اللغة رطانة شائهة هجينة ، تعتجم على القائل والسامع. والذي تشوه لغته وتعتجم لا يحسن القول ولا يحسن الفكر، ومن ثم لا يحسن التلقي ولا يحسن العمل. لأن اللغة ليست أداة التعبير فحسب، ولكنها أيضا – وبالدرجة الأولى- أداة العقل والفكر. ومن ذلك ما تسمعه من محدثك في الإذاعة والتلفزة الذي يردف لك اللفظ العربي بما يظنه المقابل الأعجمي ، وكأنما يريد أن يثبت في ذهنه وذهنك..



والغريب أن دعاة"التحضر" في هذا العصر، لا يعيرون هذه "القضية الحضارية" التفاتا. والأعجب أن دعاة القومية"العربية" في هذا العصر- واللغة العربية عنصرها الأول والأهم- هم أداة "التغريب" أيضا، ويا له من تناقض!



على أن اللغة العربية- والقرآن كافلها وكفيلها – أكرم على الله عز وجل من أن تهان، وأسمى من أن تبتذل، وأقوى من أن تهزم، وأخلد من أن تبيد. تلك كبوة حضارية عابرة، ليست القاصمة.







(5)





مر بك أن اللغات يلقح بعضها بعضا، ويستعير بعضها من بعض . وهو تلاقح محمود، فوق أنه محتوم. وهو محتوم لا مناص منه لأنه ناشئ عن احتكاك القبائل والشعوب بعضها ببعض سلما أو حربا، يموج بعضهم في بعض، ويجوس بعضهم في ديار بعض، فيعرفون وينكرون: يعرفون ما ألفوا له مثيلا في قومهم، وينكرون ما لم يسبق لهم به عهد، حسن أو قبح. ويعود كل إلى أهله بما رأى وسمع.



هب أنك عربي عاش في قرون خلت، زرت الصين فقدم لك أهلها شرابا قوى النكهة حسوته فاستطبته فسألت عنه، فقالوا لك : هذا "شا" ، فقلت في نفسك: ما أطيب هذا الـ"شا" ؛ وما أن رجعت إلى أهلك وفى جرابك بعض من هذا النبت العجيب، تغلي لهم ورقه، وتديره على جلسائك، يحتسونه ويستطيبونه كما استطبته أنت من قبل ويسألونك عنه فتقول : هذا "شاي"؛ أضفت الياء من عندك ليستقيم لك الوزن العربي الذي مرن عليه لسانك . على هذا النحو أو قريب منه عرف العرب"الشاي"، الاسم والمسمى.



وقس في المقابل على الشاي ما شئت من مثل "جمل" العربية التي صارت Kamelos في اليونانية و Camelus في اللاتينية و Chameau في الفرنسية و Camel في الانجليزية، إلى آخره. من هذا أيضا أن اليونان ما كان لهم أن يسموا "الواحة" قبل أن يروا الصحراء، وما كان لهم أن يروا الصحراء قبل أن يزوروا مصر، ومن هنا "Oasis" اليونانية التي انتقلت بنصها إلى اللاتينية وبناتها والآخذات عنها، وهى في الأصل مصرية قبطية.



هذا التلاقح اللغوي المحتوم، محمود أيضا لأنه يثرى اللغة المستعيرة بما يحتاج أهلها إلى اصطناعه ، مما ليس لديهم، اسما ومسمى، وهو مقبول مشكور بالذات في أسامي النبات والحيوان والجماد، مما سبقك غيرك إلى تسميته ، ومثلها أسامي الأطعمة والألبسة والعدد والأجهزة ، الخ. متى اصطنعت المسمى فلا بأس عليك من استعارة التسمية. التوقف في هذا عقيم مرذول، فوق أنه تنطع ونفاق: كيف تأنف من تسمية "الفالوذج" فارسيا معربا وأنت تسرطه سرطا؟ ( سرط الطعام يعنى التهمه) وكيف تأنف من قول"رابوت" تعريبا على وزن "تابوت"… تلك اللفظة التشيكوسلوفاكية Robot (التي لم يأنف من استعارتها أصحاب الحضارة الغالبة) ولا تخجل من تشوقك إلى استخدام "الروابيت"في مصنعك، تريد"الروبتة" ولا تريد "الرابوت"؟ لو أردت الترجمة بالمعنى- و Robot التشيكوسلوفاكية معناها"الخادم" – لابتعدت عن ذلك اللفظ السقيم المركب- الإنسان الآلى- "الخيشبان" في قصصك الشعبى- لأن "الرابوت" ليس بإنسان وليس بالضرورة على شكل إنسان- ولقلت مثلا"العفريت" (خادم الخاتم في قصصك الشعبى). ولكن هذا وذاك لا يصلحان لأنهما كليهما يشتبهان بمعان أخرى في لغتك، فلا يؤمن الخطأ واللبس على السامع والقائل، كما قلت في "التليفون" "الهاتف" ، ولو شهده العرب القدماء لقالوا فيه "طلفان" ولاشتقوا منه فعلا ومصدرا (طلفن – طلفنة)، يبدلون من التاء في الجذر طاء كيلا يشتبه بمادة الجذر "تلف" .هذه هي شروط "التعريب" الجيد المقبول في العربية:



(1) اختزال أحرف اللفظ الأعجمي إلى جذر رباعى- على الأكثر – كي يتاح الاشتقاق منه.



(2) تجنب اشتباهه بجذر لفظ أصيل في لغتك. إن لم يتسن لك ذلك كله مجتمعا، فالترجمة أولى.



أما السقيم المقبوح، فهو استعارة أهل اللغة من أصحاب الحضارة الغالبة لفظا أعجميا لا يحتاجون إليه، وعندهم مثله ، كمن أراد العدول عن تحية الإسلام إلى تحية الجاهلية ، فقال"بنجور" Bonjour الفرنسية، ولديه في لغته "عم صباحا" (وأصلها نعمت صباحا)، وهى طبق الأصل من تلك. وتستطيع أن تجزم- كما أجزم – بأن هذا القائل بغير لغته، في "بنجور" وأمثالها هو نفسه الذي يقول لك: لا مشكلة؛ (No Problem) يريد لا بأس؛ وهو في الحالتين- الرطانة والترجمة – ببغاء يهرف بما لا يعرف.



على أن الحديث عن أسباب هذا "التعريب" الببغاوى ونتائجه ، ليس من مقاصد هذا الكتاب، وإنما الذي نعنى به هو ذلك التلاقح المحمود المحتوم بين اللغات، قديمها وحديثها.



****



في التلقيح والاستلقاح دلالة تاريخية- حضارية لا تخفى، ليست هي في كل حال أخذ التابع عن المتبوع، والمغلوب عن الغالب، فقد يأخذ الغالب عن المغلوب، والمتبوع عن التابع (كما في "بطاطة" التي استعارها الغزاة الأوربيون عن أهل الأمريكتين، وكما "تفلسف" الرومان اللاتينيون على أيدي أرقائهم اليونان، ومثلما أخذ اليونان عن القبط، والعرب عن الصين على ما مر بك). بل قد تتجاور الحضارات على استواء تجاور الأنداد ، فيفضي بعضهم إلى بعض، دون استعلاء أو غضاضة، مثلما تجاور الفرس واليونان، والهند والصين، وآشور ومصر. الدلالة التاريخية- الحضارية للتلقيح والاستلقاح في اللغات، أي دلالة السبق إلى المعنى بدليل السبق إلى اللفظ، لاسيما في المعاني المجردة مثل "تفلسف" وأسامي العدد والأدوات مثل"المنجل"، هي دلالة الأقدم وجوداً، الأسبق ارتقاء، الأفعل تطورا: إنها دلالة الأستاذية أو التلمذة.



وإذا جاز لعلماء التاريخ ومؤرخى الحضارات الاستعانة في تأصيل مقولاتهم بهذا الشاهد اللغوي في جملة ما يتاح لهم من شواهد الأحافير والنقوش والمخطوطات فليس من شأن اللغوي المحقق أن يفعل العكس، فيستدل بسبق حضاري مزعوم على سبق لغوى مفترض، بل عليه أن يترك لمؤرخي الحضارات مهمتهم، ويستقل هو بمهمته، فيبنى مقولاته استنادا إلى مباحثه اللغوية وحدها، غير متأثر بمقولات المتخصصين في غيرها، صحيحها ومنحولها، مغرضها وبريئها : أصالة اللفظ في اللغة تبنى أول ما تبنى على وجود جذر أسبق منه، يستخدم فيها بمعان متعددة متقاربة يتوالد بعضها من بعض ، نحت منها اللفظ المختلف عليه مادته. من ذلك ، مادة الجذر- "قلم" بمعنى قطع وبرى. إنها الأصل العربي لأداة الكتابة الموصوفة في القرآن بالقلم (العلق:4)، فالقلم هو المقطوع المبري، أي قوله عز وجل :



{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } (44) سورة آل عمران، وزلمه يعنى قطعه. والقالم يعنى العزب المنقطع عن الزواج. والقلامة هي ما يقطع من طرف الظفر والحافر والعود. وقلم الشجرة يعنى أخذ من أطرافها لتقوى، فالقلم أيضا بمعنى الغصن أو العود المقطوع من أمه، ولا شك أنه قبل اصطناع المداد، كان القلم من هذه العيدان، لا من القصب واليراع (اليراع هو مطلق القصب -نبات القصب- أو هو رقاق القصب.)، هو أول ما كتب به على عسيب النخيل ولحاء الشجر، كما تجد في قوله عز وجل : {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ } (27) سورة لقمان.



لفظ القلم إذن ، الذي وصفت به أداة الكتابة في السورة التي سميت باسمه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ.مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (1-2) سورة القلم ، وأداة العلم والتعليم في أول ما نزل من القرآن : {{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3-4-5) سورة العلق، لفظ عربي أصيل، منحوت من جذر عربي أصيل (ق- ل-م)، تدور معانيه على القطع والقط. وليس من حذاق اللغويين من توهم أن لفظة قلم الموضوعة في العربية لمطلق أداة الكتابة أيا كان شكله ومادته- أي اسم جنس لكل ما يكتب به- لفظة مستعارة من اليونانية "كلمس" Kalamos لمجرد التشابه بين اللفظتين،



أولا: لأن "كلمس" هذه في اليونانية لاتعنى القصبة واليراعة. ولا شك أن الناس قبل اصطناعهم القلم من القصب- والعرب بعض الناس- كتبوا بكل ما ينحت وينقش ويخط، بل كتب المصريون القدماء بالأزميل، وكتب الإنسان أول ما كتب بإصبعه مجردا. وليس اليونان أول من كتب، بل إنهم تعلموا فن الكتابة من عرب الشمال (الفينيقيين) ، بدلالة لغوية قاطعة ، وهى اصطناعهم الأبجدية الفينيقية برسومها وأسامى حروفها. الذي ينتحل الخط لا يبعد أن يستعير من أستاذه القلم.



وثانيا: لأن العرب حين اتخذوا القلم من القصب بعد عصر القرآن سموا هذا النوع من الأقلام باسمه النوعى:"اليراعة"، وما كان لهم أن يستعيروا اسمه النوعي من اليونانية" "كلمس" بمعنى القصبة أو اليراعة. ولديهم المقابل العربي الأصيل، إلا إذا زعمت أن العرب بالمعنى العام، أي سكان شبه الجزيرة ، لم يعرفوا القصب- ذلك النبت الأنبوبى الذي يفشو في المناقع ومجارى الأنهار- قبل أن يعرفه اليونان، والعرب بالسبق إليه أشبه، وبالتعرف عليه عند أصحابه- جيرانهم المصريين- أولى.



ثالثا: لأن اليونان حين اتخذوا العصى من كبار القصب، لم يسموا تلك العصا "كلمس"- أي القصبة- ولكنهم سموها "كنا" Kanna، أخذا عن الفينيقية "قنو"، وهى نفسها "قنا" العربية اسم جنس مفرده "قناة". ومن هذه العصا ذات "العُقل" اتخذ اليونان المقاس الذي تقاس به الأطوال، وتوسعوا فقالوا Kanon، أي القانون الذي يقاس به ويقاس عليه.ها أنت ترى أن "القانون" لفظة عربية الجذر يونانية الاشتقاق فحسب ولو كانت "كلمس" بمعنى القصبة أسبق وجودا في اليونانية لقالوا في معنى القانون"كلمون" Kalamon ولما قالوا "كنون" Kanon بل لما استعاروا "قنو" الفينيقية أصلا.



(عرف العرب "القصبة " مقاسا للأطوال. وعرفها العبرانيون أيضا، ولكنهم اشتقوها من "قنى" العبرية- وهى "قنا" العربية – فقالوا" قنى همدا" أي قصبة القياس (همدا= المدى). أنظر أسفار العهد القديم فى نصها العبرانى: حزقيال 40/3 على سبيل المثال)

(فينيقيا هو الاسم الذي أطلقه اليونان قديما على من فى قبالتهم من أهل الشام، وهى من "فوينوس" Phoinos" اليونانية بمعنى الأحمر الداكن. ومن هذه Phoinikas اليونانية بمعنى "النخلة". فكأن الفينيقيين عند اليونان هم "أصحاب النخيل"، أو هم "السمر في حمرة"، وكأنها من "ادومي" العبرية "جيران لبنى إسرائيل"... قارن "آدم" العربية، بمعنى الشديد السمرة . وهذا نفيس ، فتأمله.)



كان هذا بحثا لغويا مجردا، أردناه مثالا لكيفية التدليل على عجمة لفظ ما أو أصالته في لغة بعينها ، لا نستطرد منه الآن إلى أمثال "الصراط" و"القسطاس" و"إبليس" ، الخ. ، عند من قال بعجمتها في عربية القرآن من أدعياء الاستشراق المتطفلين على مباحث اللغة، الذين خبطوا في القرآن خبط عشواء- بعد أن أنكروا على القرآن أن يكون من عند الله، واستعظموا في الوقت ذاته على محمد صلى الله عليه وسلم أن يستقل"بصنعه" دون أن يُعينه عليه قوم آخرون- فخاضوا على غير علم في إثبات إلا جهلهم وجهالتهم ، وماتوا بغيظهم. وقد تابعهم للأسف أشياع لهم مسلمون عرب فيهم من تجله وتوقره، بل من لا تشك في علمه وإسلامه وعروبته، فلا تملك إلا أن تستغفر الله لهم.



السراط (صراط فى القرآن) مأخوذ من الجذر العربى"سرط" ، و ...انسرط الطعام فى الحلق: لان وسهل منه اشتقاق"السبيل" فهو الرخى المرسل. وليس "الصراط" من "ستراتا" strata الرومية اللاتينينة (ومعناها "المرصوفة" أى الطريق المرصوفة Via Strata) فلم يعرف العرب الطرق المرصوفة حتى يصطنعوا لها اسما، وليست السهولة في "صراط" العربية من الرصف بل من الاستواء والاستقامة.



أما القسطاس فهو من القسط، كررت فيه السين تفخيما وتغليظا. والقسطاس أيضا اسم جنس للميزان العدل لا جمع له وإنما يجمع- على المعنى- بعبارة الموازين القسط، كما فى قوله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } (47) سورة الأنبياء. والجذر "قسط" أصيل فى العربية، تجد له فى الفصيلة السامية قرينا من العبرية ، وهو "قشط" الذى اشتقت منه " قاشاط" العبرية بمعنى الميزان.



وإذا كنا نعيب هذا التخبط وهذا الإسراف، فنحن لا نقصد إلى تنزيه العربية عن الاقتباس من غيرها. وقد مر بك أن التلاقح بين اللغات أمر محتوم، فوق أنه محمود مقبول حين تدعو إليه الحاجة. بل لا تخلو معاجم أي لغة من ألفاظ أعجمية الأصل. وليست العربية بدعا بين اللغات. فلا غضاضة في هذا على العربية أو على غيرها.



ونحن ابتداءً- لنفس السبب- لا نُحيل على القرآن أن يصطنع اللفظ "الأعجمي المعرب" ، فليس هذا مما يقدح في عربية القرآن، وإنما هو يجليها،لأن الأعجمي المعرب بمجرد سيرورته على اللسان وإيناسه في الإذن ، تنفك بالتعريب عجمته، وتستبين دلالته، فيصير"عربيا"، أي يفهمه العربي القُحُ مباشرة، لحظة يقرع مسمعه. أما "الأعجمي الأعجم" الذي يقع في سمع العربي غريبا بجرسه، مستغلقا بمعناه، لا يفهمه إلا أن يترجم له، فمحال وقوعه في القرآن ، دع عنك سماعه في أي قول فصيح.



ونحن كذلك – ولنفس السبب- نُحيل على القرآن "اختراع" ألفاظ أعجمية لا سابقة بها للعرب ولا عهد، يلتقطها من الأعاجم ويعربها ويعربها للعرب، فالأعجمي المعرب يظل أعجميا أعجم حتى تنفك عُجمته بطول الاستعمال. ثم ... ما حاجة القرآن إلى التعاجم على العرب بألفاظ من مثل الصراط والقسطاس، ولديه في الفصحى جم وفير من الألفاظ في معنى"الطريق" ومعنى "العدل والميزان" ؟ وإذا كانت "الصراط" و " القسطاس" من محدثات القرآن – وهما كذلك بالفعل- فهل اعتجمتا على العرب. أم فهموا على الفور أن الأولى من السراط والثانية من القسط؟ (ظنها بعض المستشرقين من Justus اللاتينية نعتا لما هو حق وعدل، وتندهش كيف خفى عليه أنها تبدأ بالحرف J الذي ينطقه اللاتين ياء، فهي عندهم "يُستس" لا "جستس" التي تحورت ياؤها جيما الآن في الانجليزية والفرنسية والإيطالية.) هل ظل العرب قرونا لا يفهمون معنى القساطس على سبيل المثال حتى فسرها لهم ذلك الدعىُ المستشرق، بل قد فهم العرب هذا وأمثاله منذ أن تلي عليهم، لأنه- على جدته في الأذن عربي الاشتقاق، يرده العربي سليقة، فور سماعه، إلى جذره المشتق منه. ولو كان لفظا أعجميا اخترعه القرآن في كلام العرب- لم تتحقق له سيرورة الأعجمي المعرب- لدى أسماعهم، لما فهموه قط إلا أن يترجم لهم.



ما أكثر ما خاض كفار قريش في مقام النبوة، وكم سفهوا وتسافهوا. ولكنهم ما جرؤوا في لدادتهم أن يمسوا القرآن بسوء، لا تقصيرا ولا تعففا. بل لو وجدوا في القرآن مغمزا لما عفوا وما أقصروا. ولكن القرآن أعجزهم أن ينالوه بسوء، ولو ادعوا عليه العجمة لافتضحوا بين العرب.



بل ما أكثر ما قالوا- وقال الذين لا يعلمون مثل قولهم- إنما يعلمه بشر. ما قالوه إلا إعظاماً لشأن القرآن- الذي أنكروا عليه الوحي- أن يعلم علمه عربي من العرب، ولكنهم سقطوا وأفحموا. قال عز وجل :



{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (103) سورة النحل. أي لم تكتفوا بإنكار الوحي على القرآن ، وإنما استكثرتم على النبي العربي أن تنحلوه إياه، فكيف بعيى أعجمى يلقنه كتابا هو لب العربية ولبابها؟



هذه القدرة الفذة المذهلة على تعريب أعجمة القرآن وتفسيره بأدق معانيه وهذا العلم المحيط في لغات درست بألفاظ يحار فيها إلى اليوم علماء اللغات وأحبارها، وهذا التصويب المعجز- كما سترى – لما وقر في كتاب الأسفار وشراحها، أنى لبعض هذا أن يعلمه بشر؟


يتبع...